زواج القاصرات .. جُرمٌ أم حقٌّ؟ (2\2)

image_print

في مقال سابق تعرضنا لفكرة الزواج من القاصر، وفي هذا المقال أشير إلى الموقف من هذه القضية. لقد جعل الله الإسلام رحمة للناس بشموليّته المحكمة المراعية لحاجاتهم وأحوالهم وتقلباتهم، فلا خلاف بين شرع الله وفطرة الإنسان السليمة، إلّا عندما تصبح الفِطر أسيرة قوالب تُصنع لها، مُحوّلة البشر لآلات مُفرغة من المشاعر والإنسانية، فالفطرة الحرة تختار ما فطرها الله عليه إن كان صاحبها ذا عقل وقلب سليمين، وإن أردنا للفتاة الحرية أطلقنا فطرتها من أيدي من يعبث بها ومن مفاهيم وأعراف بعيدة عن الإسلام، وقد تبين لنا في المقال السابق كم من المغالطات والتحيّزات التي تعتري تعريفات القاصر وقوانين تحديد سن الرشد، والتي تظهر بوضوح على أنها قوالب جاهزة ترسم حياة واحدة للجميع ومخالفة للدعوات بإعطاء الحرية وحق الاختيار، فهل تجريم زواج القاصر جزء من تلك القوالب؟ أم أنه جرم بحق الفتاة؟ ولنصل للإجابة يجب أن نستعرض القضية بكل جزئية فيها وبشيء من التفصيل.

 زواج الصغيرة

عقد الرسول صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي ابنة ست و بنى بها وهي ابنة تسع، فالعقد على الصغيرة أي الفتاة ما دون سن البلوغ جائز بالإجماع، ولكن لا تُسلّم لزوجها إلّا عندما تصبح مُحتملة للعلاقة الزوجيّة الطبيعيّة، أي أنّ التسليم للزوج مرتبطٌ ببلوغ الفتاة أو بعده، ويُضبط زواج الصغيرة بضوابط لا يسع المقام للإحاطة بجميعها، كأن يكون الزواج في مصلحة الصغيرة دون منفعة تُرجى للأب، وبتزويجها من رجل كفء غير مريض أو كهل أو معسر، ولا يحق إلّا للأب تزويجها على الأرجح، فلم يُترك الأمر للإطلاق، وإنما تُقدّر كل حالة بقدرها[1].

وقد كان زواج الصغار متعارفاً عليه في أنحاء العالم، فلم يكن مُختصَّاً بالمسلمين فقط، أما زواج الفتاة عند البلوغ فهو الأصل في الأديان والحضارات السابقة وبعض الحاضرة، ولم يكن يُطلق لفظ طفل على من بلغ إلّا مع بدايات القرن العشرين[2]، بل كان يسمى بالغاً ويعامل معاملته.

لا يحدد الزواج بسن متى ما بلغت الفتاة

يصح زواج الفتاة بمجرد بلوغها شرط استئذانها في نفسها، وقد رغّب الشرع بالزواج وعدم تأجيله إن خطبها الرجل الكفء ذي الخلق والدين، وليس من الصَّواب كتمان الأهل الخاطبين عن ابنتهم دون معرفة رأيها مَظنَّة عدم حاجتها للزواج، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) [ 1084،حسنه الألباني]، وكذلك زواج الشاب يصح منه بمجرد البلوغ عاقلاً مع توافر المقدرة، وقد جاء عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُود: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ..إلى آخر الحديث[974، متفق عليه]، وقد اعتنى الخطاب الإسلامي بالحث على الزواج متى ما كان المرء قادراً، وذمّ تأخيره إن وجدت المقدرة والحاجة له.

وأمّا تأخير الزواج والعزوف عنه من قبل الشباب والفتيات فقد جاء نتيجة عوائق تفرضها الحياة المادية وأعراف معارضة للإسلام، وماهي إلا جزء من مخططات تهدف لهدم الأسر ونشر الفساد.

سيداو وحقوق الطفل:

تشكل الاتفاقيات؛ التي تهدف إلى تغيير الأحكام المختصة بالمرأة في دول العالم مُحاولة القضاء على جميع أشكال التمييز ضِدها الحجر الأساس في اتفاقية سيداو، الساعية لتحقيق المساواة التامة بين الجنسين، والعمل على إعطاء المرأة الحق في اختيارات الحمل والإجهاض وتزويج النفس، ودعمها للدخول في سوق العمل والحياة المهنية، والتي تتفق بنودها مع أهداف منظمة الأمم المتحدة لحقوق الطفل مثل تجريم الزواج قبل سن الثمانية عشرة ومنعه بجميع أشكاله، وفرض المساواة منذ الطفولة.

وتعتمد هذه المنظمات على أرقام ودراسات تعمم على العالم مع أنها مُجتزأة ومنقوصة، فقد وجد انتشار زواج القاصر في آسيا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وهي إما مناطق مجاعات وحروب أو مناطق بعيدة عن الإسلام، وتلك مُسببات كافية لسوء الرعاية الصحية والنفسية ولانتشار الجهل والأمراض وضياع الحقوق[3]، والتي تؤثر بدورها على أي فرد فيها، فلا يمكن ربط نتائج  كالفقر والأمراض النفسية والجسدية والإجهاض والتعرض للعنف الأسري بالزواج في سنٍّ معيّن، لأن هذه العوارض تصيب أي فتاة في أي عمر وقد تكثر في مثل هذه المناطق، فهل يصح القول بمنع الزواج للفتاة التي تعيش في المخيمات مع أنها محرومة من حقها في التعلم، في حين أن 3.7 مليون طفل نازح بلا تعليم، و24% فقط من أطفال النازحين تتاح لهم فرصة الانتقال للمرحلة الثانوية[4].

بالإضافة إلى أن هذه الاستقصاءات لا تلتفت لحالات الزواج المبكر[i] الناجحة والمنتشرة بكثرة في أنحاء العالم، ومن التجاوزات أيضاً تعميم أضرار زواج الصغيرة على زواج البالغة العاقلة، مثل دعوى تهتُّك الأعضاء التناسلية نتيجة الزواج، فهو ضرر الزواج قبل البلوغ وهو ما حَرَّمه الإسلام إن سبب أذى للفتاة، أما بعد البلوغ فالأصل جاهزيّة الذكر والأنثى للزواج من الناحية البيولوجية مع وجود الاستثناءات، ولو كان الضرر حتمياً لكان الأولى تجريم العلاقات غير الشرعية المنتشرة بين أبناء الغرب القُصّر.

لماذا لا يُجرم انحلال المراهقين في الغرب؟

ألا يستحق هذا السؤال الوقوف عنده؟ فبماذا تختلف هذه العلاقات عن الزواج الشرعيّ، إلا أن الزواج يخرج هذه العلاقة من البهائيمية وما يترتب عليها من ضياع للحقوق إلى علاقة تحترم كرامة الإنسان بتأطيرها بأُطُر تفرض مسؤوليات وحقوق وواجبات، فتحريم الزواج من القاصر هو مَنعٌ للعقد الرسمي عليه ولا يعني تحريم العلاقات في هذا السنِّ في الغرب، ولا ما يرافقها من استخدام موانع الحمل والإجهاض، وقد نتج عن هذا الانحلال أمراض نفسية وجسدية وتَزايدٌ في التنمر والاستغلال، وهذا ما تؤكده أرقامهم بأن أكثر من نصف المراهقين فتياناً وفتيات فقدوا عذريتهم ما بين سن ال 15 و19، وواحد من كل خمسٍ فقدوها قبل سن 15، وأكثر حوادث الموت بين المراهقين هي نتيجة الابتزاز والاعتداء الجنسي، ولخفض الأرقام قاموا بفرض دروس التوعية الجنسية التي تبدأ من سن العاشرة تقريباً كنوع من الوقاية، ليتناقص عدد المراهقين الذين يمارسون فعل الزنا إلى 39%.

مفهوم الزواج الغربي والإسلامي

تخسر مؤسسة الزواج الغربي أهميتها بشكل متزايد فلم يَعُد لعقد الزواج الديني أو المدني أهمية تذكر، ولذلك مُنِع إنفاذه قبل سن الرشد لكونه عقد مجرّد لا تأثير له على حُلّيَّة الارتباط بين الجنسين، فتشير الإحصائيات إلى أن 60% من المواليد الفرنسيين[5] و40 % من مواليد الولايات المتحدة قد ولدوا خارج إطار الزواج، وقد يلجأ البعض للزواج المدني تحصيلاً لبعض الحقوق كزوجين رسميين وكأسرة، بدون أي إلزامات جدية بين الطرفين، ولا يتم عقده إلا بعد فترة اختبار طويلة لمدى صدق المشاعر قد تتجاوز السنوات حتى مع وجود الأطفال، فإن لم يحصل الوفاق بعدها لم يكن للفتاة أي أدنى حقوق، وهو ما يختلف عن مفهوم الأسرة والزواج في الإسلام اختلافاً جذرياً، فعقد الزواج في الإسلام ميثاقٌ غليظٌ وشرط لحُلِّيَّة الاستمتاع بين الطرفين، يفرض مسؤوليات وواجبات تُلزم الرجل والمرأة، وتضمن حقوق كل منهما فيحصل بذلك السكن والمودة والرحمة، مع حماية منيعة لمؤسسة الزوجية وضمان لحقوق الطفل التي من أهمها أن يحيا في كنف أسرة مستقرة تحفظ نسبه من الضياع.

أهليّة الزواج

إن أهلية الزواج-أي عقد الزواج- في المفهوم الغربي، مرتبطة بالعمر كما سبق بيانه وبأسباب مادية كضمان العمل الجيد وجمع الأموال الوفيرة، وقد انتقل هذا المفهوم المتزعزع إلى بلاد المسلمين لتحدد أهلية الزواج بالعمر وبتحصيل الشهادات والأموال، ثم تجد الفتاة نفسها أمام مجتمع يُعايرها بفوات الأوان، وطلباتٍ تثقل الجبال يُطالب بها الشباب، في حين أن الإسلام حثَّ على الزواج وعلى تسهيله على الشباب والفتيات، ولم تُجعل الأهلية مرتبطة بالعمر أو المال الوفير والعلم الغزير لأن السعي وراءهم لا ينتهي وماهي إلا أرزاق من الله، بل حُددت القدرة بالدين والصلاح فهو الأصل لاستمرار الزواج، فما المانع أن يتم الجمع بين الزواج والعلم والعمل؟ وتشهد حالات كثيرة على نجاح هذا النوع من الزواج إن اتّسم بصلاح حال الزوجين، فالأهليّة للزواج إذاً تتفاوت بتفاوت الحال والمقدرة.

تحديد العمر كبتٌ للقدرات

لقد توفي رسول الله عن عائشة رضي الله عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وقد كانت أحب الناس إليه وأفقه نساء المؤمنين وأعلمهم، فلنا أن نتخيل لو حددت القدرات بالأعمار لكم كنا فقدنا من علمها، ولم يكن ليُقبل إسلام علي رضي الله عنه وهو ابن عشر سنوات، ولما وُلّي أسامة بن زيد رضي الله عنه أمارة الجيش وهو بعمر السابعة عشرة، وإن تحدثنا عن الفروق بين الأزمان، فلن نجد اختلافاً كبيراً في الغرائز والحاجات بل الفرق أن البالغ اليوم يُعامل معاملة الطفل ويعزل عن محيطه ومجتمعه بشاشات الكترونية مع أنه أكثر ذكاءً من أطفال الأمس[6]، مما أدى إلى ظهور جيل غير ناضج اجتماعياً ونفسياً، يحمل طاقات هائلة إن لم تشغل بالخير شغلت بالشر.

فطرة السكن والاستقرار

إن حاجة النفس للزواج فطرة أودعها الله فيها، وللزواج دوافع مختلفة كطلب الاستقرار والستر والرفعة والمال، وحض الإسلام على الزواج تحقيقاً للعفة وتحصيناً للنفس وتكثيراً للنسل مع اختيار الرجل والفتاة الصالحين، وكثير ما تلجأ الفتيات للزواج حماية لنفسها وتحقيقاً لاستقرار مادي لن تقدمه الوظيفة لها إلا ما ندر، ولهذا ينتشر في الغرب زواج الفتاة الشابة من رجل غنيٍّ يفوقها بالعمر بكثير، وتتفاقم ظاهرة sugar daddy المشابهة وهي شكل معاصر من أشكال العبودية، حيث ترافق الفتاة رجلاً غنياً ربما كهلاً أو متزوجاً مقابل مال وحياة رغيدة وتأميناً لنفقات الدراسة والمعيشة، وذلك عندما أُخرجت من كنف والديها ببلوغها سن الرشد القانوني لتواجه مصيرها في الخارج بنفسها.

الإعانة على الصلاح

إنّ ممّا يُمزِّق قلب فتاة متزوجة في عمر مبكر هو تَجريم والديها وإيهامها بطفولتها المسلوبة بين قضبان الزواج، وأفضل مايُقدم لها هو الإعانة والدعم ومساعدتها لتَعلّم ما تحتاج لإنجاح مؤسسة الزواج، ومن الخير تهيئة الشبان والفتيات لمسؤولية الزواج في عمر مبكر والعناية بإدراج مادة فقه الزواج والتعامل بين الجنسين في التعليم، بدلاً من مطالبات إدخال مادة التربية الجنسية المُتّسمة بالتفسيرات البدائيّة الخالية من معاني الاحترام الإنسانية مثلما يصفها الباحثون، فقد شرّع الله الزواج الحلال للفتاة والشاب وترك في الأمر سعة لكل حالة، ويصبح الاستعجال بالزواج أمرا محبذاً في زمن كثرت فيه الفتن وانتشر الفساد، فإن شاء الله وحَصَل الزواج، كان أفضل ما تظفر به الفتاة شابًّا مؤمنًا يعينها على الصلاح، وإنّ خير نِعم الدنيا للرجل المرأة الصالحة.


[1]  د. عبد الكريم زيدان.(1993).المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية.(الطبعة الأولى، المجلد 6،الصفحات 388-412).بيروت، لبنان: مؤسسة الرسالة.

[2] https://en.wikipedia.org/wiki/Child_marriage

[3] بحث-قانوني-ودراسة-فقهية-مقارنة-حول-تحديد-سن-الزواج-في-الشريعة-والقانون

[4] https://www.unhcr.org/news/press/2019/8/5d67b2f47/refugee-education-crisis-half-worlds-school-age-refugee-children-education.html

[5] https://www.statista.com/chart/13668/where-babies-are-born-outside-of-marriage/

[6] الباحثون السوريون.(29 05, 2019).The Flynn Effect تأثير فلين.

[i] يقصد أحيانا الزواج ما بعد سن الرشد بين 18-25

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد