دين الدروشة أم المنهجية العلمية؟
مدهشة هي رقصة “المولوية” لكل من يتأملها، دوران منتظم على إيقاع خاص، ضمن أجواء قد تُسمى بالروحانية، أو الصوفية، أو لنقل أي مسمى آخر، المهم أنها تلخص صورة وانطباعاً عن فلسفة ما للدين، وتوصيفه بالزهد، والدروشة، والابتعاد عن جانب الحياة والعمل، والاقتصار على تزكية النفس.
هذا على الأقل هو المفهوم الذي ترسخ في الحقبة الأخيرة ضمن العقل الجمعي، ليبتعد الدين بهذه الصيغة إلى قطب بعيد عن قطب العلم والعمل، وليتخذ الأخير مساراً تائهاً عن الدين متخبطاً في افتراضات الداروينية والطبيعة وغيرها، وكأنما الدين لابد أن ينفصل عن العلم ويُختصر في طقوس وشعائر.
منذ أكثر من 1400 سنة، وعندما كان العالم غارقاً في متاهات الجهل والتغييب، إلا بقعة نور انتشرت من مكة إلى أرجاء الأرض، تأسست هناك المنهجية العلمية للعقل المسلم، وباتت أهم ثوابته، والحجر الأساس في رسوخ إيمانه، وفي صميم اعتقاده ودينه. في الحين الذي يشيع فيه الظن بأن أسس منهجية البحث العلمي ومدارسه حديثة، الأمر الذي يغيّب القواعد العلمية القوية التي بنتها المدرسة النبوية في مسيرتها القويمة لإنشاء عقول تنأى عن الظنون والشكوك، وتُبنى على الحقائق، تنفي الوهم، وتقترن بالحجج والبراهين والأدلة. مدرسة أبعدت الخرافة السائدة في الأرض دهوراً عن مدرسة الصحابة والتابعين، فلم يكن من ثمارها فقط جمع القرآن والحديث وحسب، بل بناء وتأسيس أجيال واعية فاهمة تعتمد كل الاعتماد على الدقة والموضوعية والصّدق، تماماً كما تُبنى على الجد والاجتهاد والعناء وشد الرحال من قارّة لأخرى، ومن بلاد إلى بلاد أخرى فقط من أجل التحقق من معلومة!

رقصة المولوية في تركيا
نتج عن المدرسة التي وجه إليها القرآن الكريم عبر آياته أسساً تربى عليها كل من وعى القرآن ليكون الشعلة التي تضيء العقل فتنتج منهجية تفكير واضحة، قال تعالى: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” ]الإسراء: 36].
المنهجية التي تنفي التعالم، وتشجع عبارة “لا أعلم” بدلاً من القول غير المبني على حقيقة “قالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم” ]البقرة:32[.
المنهجية التي تحارب اتباع الظنون والبناء عليها، قال تعالى: “وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” ]يونس:36[.
وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” [الحجرات: 6]، وهذه الآية أصْلٌ في اعتبار العدالة والضبط في الرواة، كما أنَّها دليلٌ في وجوب التبيُّن والتثبت من حقيقة خبر الفاسق.
وهي المنهجية ذاتها التي نشأ عنها علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، وعلم تراجم الرجال، ليصل عبرها إلى أسس قويمة واضحة علمية ومتينة ليس في علوم الحديث فقط بل في بناء الشخصية المسلمة، هذه المنهجية العلمية هي التي استطاعت أن تنشئ الجيل الواعي الذي فتح الأرض من مشارقها إلى مغاربها، وساد العالم بالعلم والحضارة حقبة طويلة من الزمن، وبات قِبلة علمية لأمم الأرض تنهل من معينه، وتتربى على أسسه وثوابته، هي التي تثبت أن الدين هو أساس التفكير الصائب، والفكر الصحيح، ولولاه لما تكبد المسلمون الأوائل عناء البحث والترحال وبذل الوقت والجهد والنفس في سبيل تحقيقه وفق أسسه الصحيحة وهو مؤمن كل الإيمان أنه لا يقوم بهذا الدور فقط من باب الشغف العلمي وحب الاطلاع، بل لأن دينه يملي عليه هذا الواجب، وهو آثم إن لم يقم عليه بالشكل الصحيح.
اليوم ونحن نعايش ثورة العلم في أوسع أشكاله، لابد لنا من وقفة، ونحن نفكر في موقعنا من هذه الثورة، ومكاننا فيها، علينا أن نتلمس مكاننا الصحيح ونقيّم جهدنا العلمي والفكري في الحقبة الأخيرة من الزمان، لندرك أسباب تراجعنا وسيادة الأمم علينا.
فالواقع أننا عندما نزعنا عن كواهلنا عبء التفكير، وعناء بذل الجهد ومشقة التحري والبحث عن الحقيقة، وباتت تقييماتنا لكل ما حولنا تعج بالفوضى والظنون، عندما ابتعدنا عن القرآن كانت النتيجة سقوطنا في كافة المجالات للسبب ذاته.
والسنن الإلهية تقول بأننا حين نتدارك أخطاءنا فنغيّر ونُصلح، فإن دائرة الهزيمة والفشل والهوان ستضمحل، ونستعيد دورنا وفاعليتنا.
الأمر الذي يحتاج إلى جهود حثيثة في كافة الميادين والمجالات، لتحدث ثورة مختلفة، مبنية على العلم الذي شعلته الإيمان.