دور اللغة في التغيير

image_print

بين وابل الترغيب والترهيب الذي ينهال يومياً على الناس، يحذرهم من العذاب أو يحفزهم للجنة، وبين المطويات التي تطبع بمئات الآلاف، والرسائل المطولة التي تُرسل ولا يقرأها المُرسِل ولا المستقبل، يقف جيل الناشئة مشدوهاً أمام الآيات والأحاديث التي تُعرض عليه، وكأنها تُقال بلغة مختلفة مع أنه يفهمها. وكأن الحاجة إلى ترجمان باتت ماسّة اليوم، رغم أن الجيل يفهم الأغاني والمسلسلات بكل لغات العالم، لكنه يقف عاجزاً أمام لغة لم تعد تصل إليه، لأن القيم تتلاشى في زمن صعب، ومعاني المفردات تضيع.

ولأن الكلمات تغدو محصورة ومحاصرة ومضيق عليها في أطر وموضوعات بعينها يريدها الإعلام ويصفّق لها المجتمع ويستجيب، يغدو ضرورياً البحث عن مخرج لأزمة التغييب، كما يغدو واجباً إنسانياً وأخلاقياً وحضارياً إعادة الدين للإنسان، فحياة العبث والاتكاء على فراغ لن تنتج إلا مزيداً من العبثية والوحشية والضياع، وسيغيب الرادع الذي يصنع من الإنسان إنساناً.

أزمة هوية
كثرت الهويات وتناطحت فيما بينها، حتى تلاشى الوجه الحقيقي لهوية المسلم، وبات يأخذ تعريفات ومسميات لهويته من الآخرين، ومهما جد أو اجتهد في تركيب صورة ومعنى لهويته فلن يفلح، لأن الصور المستوردة لن تقدم حقيقة كالصورة النابعة من الصميم.

صورة المسلم باتت مشوهة ما بين معاني الإرهاب ومسمياته المختلطة، وبين سمة داعش ومنهجها التي قدمت أكثر الصور تشويهاً للإسلام، فبات الملاذ الأوحد للمسلم أن يتخلى عن هويته ويرفع هويات الآخرين لعله بذلك يقف على أرضية صلبة. بينما كان بالإمكان إعادة بناء الهوية المنطلقة من الفهم الواعي للقرآن والسنة، وحملها دستور حياة لا مجال فيه للتخلي.

قال تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” [الأنعام: 162، 163].

أزمة إدراك
هي أزمة إدراك للسبب الحقيقي من الخلق، ومن وجود الإنسان في الحياة، الأمر الذي إن استطاع كل إنسان إدراك حقيقته ومعناه سيتغير مفهوم العبادات من طقوس إلى حياة، وسيؤمن هذا الإنسان بدوره كخليفة في الأرض، فيعبر من خلال إدراكه هذا كل مرحلة بوعي مختلف، ورغبة حقيقية بأن يمضي قدماً للأمام، قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 30].

أزمة لغة وفهم: فإهمال اللغة وقصرها على جوانب معينة، وترك تداول لغة القرآن، والتهاون في فهم معانيه أدى إلى تراجع ملحوظ في استخدامات اللغة عند الجيل الجديد، كما أدى تدريجياً لفقدان القدرة على التعبير عن النفس، وبالتالي غياب أو انعدام التواصل الصحيح بين البشر، نتيجة عدم الفهم الصحيح.

قال تعالى: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب” [ص: 30].

أزمة تربية وتعليم: إن التهاون في استخدام اللغة، وفي استبدالها بالأدنى، وتهميش أثرها ودورها ضمن جميع المراحل التي يمر بها الإنسان، والمحطات التعليمية والتربوية التي يقف عندها أدى لوجود فجوة واضحة أدت وتؤدي إلى نتائج وخيمة، مما أخلى الساحة لمن يقوم بتأويل الآيات والأحاديث على هواه، ولتتحول اللغة إلى أداة في يد العابثين يحتلون بها عقولنا ويحكمون القيد من خلالها.

قال تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون” [يوسف: 2] .

فغاية القرآن العقل، والعقل أساس الوعي، ووعاء النهضة، وعمود الفهم والانطلاق لإعمار الكون بالخير، ومن عقم فهمه للقرآن أغلق على قلبه فبات سجناً لكل وباء، وبالعكس، حين تتفتح المعاني في الآيات، تفتح معها مغاليق القلوب والعقول، فينعكس ذلك سلوكاً مستقيماً، وعملاً صالحاً، وحينها سيُفهم تماماً ماذا أراد الله لأهل الخير من خير، وماذا أعد للخارجين عن القوانين والسنن من جزاء وعقاب بسبب اختياراتهم. إننا نحتاج أن نفهم على الله أولاً، لنفهم أنفسنا، ثم لنغير واقعنا ونؤثر فيه.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد