دور  العمارة البنيوية في تعزيز هوية المكان

ثمة –في حقل العمارة- عدد من النظريات المستخدمة، شأنها شأن بقية الحقول التجريبية والنظرية، وإذا ما أردنا رصد قائمة بنظريات الهندسة المعمارية، فسنجد النظرية الوظيفية واحدة من أبرز نظريات العالم المعماري عبر التاريخ، ومُنذ أن بدأ ما يُعرَف بعصر الأنوار أو عصر العقل مطلع القرن الثامن عشر صار ينظَر إلى المجتمع على أنه منتَج عقليّ محض بعيدًا عن العوامل النفسية والعاطفية، كما أن الآلات التي شكّلت جزءًا أساسيًّا من ثورة الصناعة صارت الملاذ الأهم لأصحاب رؤوس المال، حرصًا على الوصول للاستفادة القصوى من المال من جهة والآلات الصناعية من جهة أخرى..

إلى جانب ذلك ظهرت نظرية الاستفادة أو العمارة الوظيفيّة في العمارة، وقد كان المعماري السويسري/الفرنسي شارل إدوار جانيريه-كري -المشهور بلقب لو كوربوزييه- أحد أهم روّاد عمارة الحداثة في القرن العشرين، وقد كان أبرز من طبق هذه النظرية في كُل مبانيه وأحد أهم المطورين والداعمين للوظيفية في كل مبادئها .

أدّى مبدأ الوظيفية المحضة في الهندسة المعمارية إلى مشاكل عدة، منها أن مفهوم الوظيفة للمكان أو الآلة أو المبنى قد يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، فلا يمكن تحديد مفهوم واحد للوظيفة؛ إذ إن لكل سياق خصوصية مكانية وزمانية، ولكل مجموعة من الأشخاص أولويات مختلفة في استخدام الآلة أو المبنى، وبالتالي فإن عبارة (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function) المتداوَلة بين المعماريين العقلانيين الحداثيين بدأت تترجم نتائج تناقضاتها في الواقع الحي.

بوستر يحمل شعار (الشكل يتبع الوظيفة). المصدر: digitalbeauty.com

البنيوية في العمارة

يمكن التأكيد على أن البنيوية في العمارة أقرب لأن تكون ردة فعل على الحداثة، لكن على عكس حركة ما بعد الحداثة، فإن البنيوية تطوّرت بشكل أبطأ وأقل وضوحًا خلال عدة فترات في العقود الماضية.(1)

في عام 2012 قُدِّم السؤال الآتي -حول جائزة المعمارية البريطانية المعروفة اختصارًا بـ RIBA-: “هل ينبغي منح الـ Venturis الميدالية الذهبية الملكية RIBA لهذا العام؟” ويُقصَد بذلك روبرت فينتوري وزوجته دنيس براون اللذان يعدّان من أشهر منظري العمارة في تيار ما بعد الحداثة-.

إلا أن المثير للدهشة هو أن لجنة RIBA لم تمنح Venturis الميدالية، وبدلاً من ذلك، أعطت المعماري الهولندي هيرمان هيرتزبيرجر الجائزة لهندسته القائمة على النظرية البنيوية ومساهماته النظرية.

المعماري هيرمان وأحد تصاميمه المعمارية. المصدر: architectureandeducation.org – alchetron.com/Structuralism-(architecture)

شعور الاغتراب في العمارة المعاصرة

ثمة تحوّل عجيب يلاحَظ في تركيز المعماريين في تيارات ما بعد الحداثة، فمع أن العقلانية الحداثية كانت شديدة الحزم في تعريف العمارة على نحو صلب، إلا أن السيولة التامة في أفكار فينتوري لم تكن لتنقذ الموقف، مع أهمية أفكار النقدية التي قدمها.

لقد كان تعليق جاك برينجل، الرئيس السابق لـ RIBA أن “الميدالية الذهبية الملكية، أرقى جائزة بريطانية، يجب أن تذهب إلى مهندس معماري يدفعنا إلى الأمام، وليس إلى الوراء”.(2)

لقد كان المعماري الهولندي هيرمان هيرتزبيرجر متأثرًا بالفكر البنيوي على نحو واضح وجذري، وكانت القضية الرئيسية لهيرتزبيرجر هي مشكلة تفاعل المستخدمين مع المبنى وكيفية منع الشعور بالاغتراب الذي تنطوي عليه اللغة المجردة للهياكل النحوية الموجودة في بنية العمارة.(3) وكنا قد تكلمنا عن ذلك سابقًا في مفهومه للتأقلم والاستجابة للتغيير، ونظرياته التي توضح الفرق ما بين المرونة وتعدد الأوجهFlexibility vs Polyvalence .

المشاركة في البنيوية المعمارية

الفكرة الرئيسية التي ترتكز عليها البنيوية المعمارية هي مبدأ المشاركة، حيث إن المستخدمين يكون لهم دور في تحديد هوية المكان، كما يكون تحديد وظيفة المبنى مبنيًّا على حاجات المستخدمين الأساسيّة، فشخصية المستخدمين وهويتهم غير ممسوحة في البنيوية المعمارية وذلك على عكس العمارة الحداثية، وبالرغم من أن هذه المباني صلبة ومجردة مثل العمارة الحداثية، إلا أن ما يجعلها مختلفة عن العمارة الحداثية هي أنها أكثر قابلية لإعادة التأويل في الزمان والمكان، ففيها مساحات كبيرة (حيز مكاني) ومسامات واسعة (في الوظيفة) تسمح بالتغيير وعدم التشدد و تعطي فراغ للمستخدمين لإضفاء على المكان طابع خاص على حسب السياق والوقت (حيز زماني).

إلى جانب ذلك فإن العمارة البنيوية متأسسة على نظام الكبسولات المتعددة، التي تنتشر بحسب السياق وحسب الحاجة، فتكون مثل النسيج المتماسك بخلاياه المتفردة، وبالرغم من أن كل كبسولة تعَدّ كيانًا خاصًّا، إلا أنها مترابطة ومتلاحمة مع الكبسولات الأخرى لتنتج نسيج يجمع ما بين المساحات العامة والخاصة بطريقة تسمح بإضافة جدران إضافية عند الحاجة أو توسيع الفراغات بين الكبسولات لإيجاد أماكن لها طابع خاص.

يجب التنبه هنا إلى أن الكبسولات قد تنتج هوية عامة متماسكة قابلة للتعريف، حيث إن هذه الطريقة في توزيع المساحات والبناء تضمن وجود أماكن عامة وأماكن أكثر خصوصية، ومن الأمثلة على ذلك هو برج كبسولة “ناكاجين” في طوكيو عاصمة اليابان؛ إذ إن البرج متكون من كبسولات منفردة ومتراكبة بشكل متفاعل مع السياق الموجود، فوجود الكبسولات بأمكان واتجاهات محددة يكون بحسب عوامل عدة يتم تقييمها وإيجاد حلول متأقلمة مع العوامل.

برج كبسولة ناكاجين في طوكيو. المصدر: https://www.archdaily.com

التأقلم بين العالمية والمحلية

تكمن أهمية العمارة البنيوية في أنها تجمع ما بين العالمية والمحلية، فهي قابلة للتغير والتأقلم بحسب السياق وتستلهم الحلول من الواقع المحلي، وتعدّ مباني جامعة قطر –من وجهة نظر هندسيّة بحتة- مثالًا واضحًا على قدرة العمارة البنيوية على استلهام النموذج المحلي وترسيخه، فقد صمّمت مباني الجامعة ونفّذت من قِبَل المهندس د. كمال الكفراوي، وتتميّز الأبنية بالتصميم التجميعي لوحدات متكررة مع استخدام الحلول التقليدية المحلية المتمثلة في البراجيل (ملاقف هواء خليجية) والمشربيات والتظليل والحوائط المزدوجة والأفنية الداخلية.(4)

http://www.qu.edu.qa/ar/testing-center & https://www.midmac.net/ar/project/university-of-qatar-phase-1b/

 وهذا يقودنا لضرورة دور فهم خصوصية المكان في استيعاب الواقع؛ حيث إن مبدأ “هوية المكان” صار مهمًّا جداً في فكر ما بعد الحداثة لدى أطياف مختلفة، وذلك لأهميته في حياة الإنسان، فالإنسان يحتاج الشعور بمكانه في هذا العالم ليتمكن من هضم الواقع واستيعابه، وإلا فإنه سيكون تائهًا طوال الوقت دون القدرة على الربط مع المحيط المادي وما يدور حوله من تغيرات.

علاقة الوعي الإنساني بالمكان

من الجدير بالاهتمام وجود الكثير من التركيز على مفهومي الزمان والمكان في العصر الحالي. فإن كنا نعيش في عصر السرعة وتغير الزمان على الدوام، فإن علينا التساؤل: ماذا عن المكان؟ وكيف يمكن أن نفهمه، وكيف نربط وعينا به؟

قد تكون العمارة البنيوية بابًا للإجابة عن هذه الأسئلة، وقد تكون أجوبة غير شافية بالضرورة، نظرًا لكون البنيوية تستلهم نظريّة متشابهة بشكل عام، لكنها تقدم حلولاً قد تبدو مناسبة للبعض، كما أنها تضعنا في قلب الواقع المعاش حتى ندرك حجم الإشكالية وثقلها، وبذلك فإنها تفتح مجالًا لأسئلة وإشكاليات أخرى، تتطلب منا مداومة البحث والنظر، أي أنها تنتظر مبادرة الفردِ ووعيه الخاص لتعطيَ نمطًا مغايرًا، كما أنها تبقى صماء عند غياب شخصية الإنسان.

إن أغلب التصميمات المعاصرة للمباني في عصر ما بعد الحداثة غير واضحة في مدخلها ومخرجها، وفي بدايتها ونهايتها، كأنما تترجم الواقع السريع الذي نحن فيه، حيث كل شيء مؤقت وغير ثابت، لا أهمية له إلا في اللحظة الراهنة.

تعتمد البنيوية المعمارية على وجود الإنسان حتى تنجح، وبدون الإنسان يبقى التصميم غير ناجح ولا يؤدي وظيفته تماماً، فالبنيوية بطبيعتها تهتم بتكوين وحدات مصممة ومتعددة الأوجه شكلياً في جميع مستويات الوجود الإنساني (سواء كان الوجود يتعلق بغرفة أو مبنى أو مدينة). فقط عندما يستحوذ المستخدمون على الهياكل من خلال الاتصال أو التأويل الفوري أو ملء التفاصيل، تحقّق الهياكل وضعها الكامل وتكون قد أثبتت نجاحها.(5) وهنا يمكن لنا إنهاء المقال بهذا الاقتباس من المعماري هيرمان “في البنيوية، يميز المرء بين هيكل ذو دورة حياة طويلة والجيوب بدورات حياة أقصر.”(6)


الإحالات والمصادر:

لكتابة هذا المقال، تم الاستفادة من مقال (ما بعد الحداثة) على موسوعة السبيل. تاريخ الزيارة 11/05/2021 https://cutt.ly/5bSp9f8

  • مقال حول العمارة البنيوية. تاريخ الزيارة 11/05/2021 https://cutt.ly/QbSpUDY
  • المصدر السابق نفسه
  • تم الاستفادة من التغريدة التالية عن عمارة البنيوية لدى هيرمان هيرتزبيرجر https://cutt.ly/sbSpAPv
  • تم الاستفادة من المنشور التالي عن مباني جامعة قطر https://cutt.ly/ybSpDJJ
  • Arnulf Lüchinger, Structuralism in Architecture and Urban Planning, Stuttgart 1980. Structuralism as an international movement. Including original texts by Herman Hertzberger, Louis Kahn, Le Corbusier, Kenzo Tange, Aldo van Eyck and other members of Team 10.
  • مقال حول العمارة البنيوية. تاريخ الزيارة 11 /05/2021 https://cutt.ly/xbSpGRp