خرافة تفوُّق الرجل الأبيض!

image_print

“العرق الأبيض بطبيعته يمتلك كل المواهب والدوافع، لذلك يستحق المعاينة والدراسة عن كثب أكثر من غيره” كان هذا الاقتباس جزءًا من أسس العنصرية الغربية، وربما ستشكل هذه الخلاصة صدمة للشخص المحب للفلسفة الأوربية، خاصة وأنه سيقرأ تحتها كلمة “كانط“، فقد لا يصدق أن رجلًا قضى حياته بحثا عن “السلام العالمي” يتفوه بمثل هذا كلام تفوح منه رائحة عنصرية مقيتة، ولكن الحقيقة أن للرجل نصوص طويلة يصف فيها كيف أن الهنود الحمر -سكّان القارة الأمريكية الأصليّون- والأفارقة –الزنوج-  أقل إنسانية وأكثر وضاعة، حيث –برأيه– “تتجلى الإنسانية بشكلها الأمثل في العرق الأبيض…زنوج القارة الأفريقية لا يملكون إحساسًا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة”

يجب أن لا نُصدَم فليس كانط وحده من وقع في فخ العنصرية وتبنى “المركزية الأوربية”، فغيره كثيرون،  فلعقود طويلة ظلّت هذه المنظومة الفكرية قائمة في أوربا الغربية ثم أمريكا باعتبارها وريثتها الشرعية، والآن يمكن أن نلمسها بوضوح في الخطاب الصهيوني ومن يدافعون عنه، فإسرائيل تمثل حضارة الرجل الأبيض المتواجدة داخل الشرق، ذاك الشرق المتخلف أناسه والمستبد حكامه، وهكذا نجد أن المركزية الأوربية لطالما وجدت لنفسها المقام رغم تقدم البشرية في سُلَّم المعارف إلا أن البيض لا زالوا محتفظين بنظرتهم الفوقية لحضارتهم، ونظرتهم الدونية نحو كل ما هو من الشرق.

منابتُ الحضارة .. تدليسٌ وتزوير

يمكن أن نختلف في منظورنا للحضارة؛ إلا أنّنا نكاد نتّفق على أن الحضارات الشرقية سبقت الغربية وعاشت أكثر منها؛ فالحضارة المصرية سبقت حضارات أوروبا وعاشت أربعة آلاف سنة، بينما الحضارة اليونانية مع كل إرثها فإنها لم تستمر أكثر من ألف سنة، ونحن اليوم أمام الحضارة الأوربية – ولعلها اليوم في خريفها الأخير- وحياتها لم تتعدَّ سبعمائة سنة، من كل هذا يمكن أن نكتشف أن الحضارة الغربية ليست سوى عارض على الإنسانية كما يقول المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي، ولكن مع هذا يرى المثقفون الأوربيون أن لا تاريخ قبل أوربا أو أن كل التاريخ يصب في محيطها، وهكذا نجد تريفور روبر في كتابه “صعود أوروبا المسيحية” يقول: “كان تاريخ العالم، طوال القرون الخمسة الماضية، بالقدر الذي كان فيه مغزى؛ تاريخًا أوروبِّيًّا، وأنا لا أظن أننا نحتاج إلى اعتذار إذا كانت دراستنا للتتريخ هي دراسة مركزية أوربية”.

يبدو أن التاريخ -كل التاريخ- بات يتحرك منذ خلق الله آدم في اتجاه أوروبا ومركزيّتها، ولعله من أجل أوروبا وبسببها بنى البابليون حدائقهم، ورفع المصريون أهراماتهم، وخطّ المسلمون الخطوط الأولى لعلم الاجتماع، ولم تكن إنجازات هؤلاء إلا قطرة ماء في محيط أوروبا؛ فلا فن قبل الفن الأوربي ولا شعر ولا فكر إلا شعرها وفكرها!

هذا التفوق الأوربي في نظر الرجل الأبيض يبدو حتميّة تاريخيّة وأشبه بالإرادة الإلهية كما يصرح نص رواية صامويل جونسون (الراس إيلاس): “قال الأمير: كيف أصبح الأوربيون على هذا القدر من المنعة والصولجان؟. أجاب إملاق: سيدي إنهم أقوى منا بكثير لأنهم أحكم منا…لكن لماذا فاقونا في المعرفة، هذا ما أعجز عن إدراك سببه، اللهم إلا إنها إرادة الكائن الأعظم”

كم كان كانط ليسعد بهذا الكلام، فمع أنه يبدي إلحاداً منمقا إلا أن الرغبة الجامحة في إعلاء العرق الأبيض كانت سببًا ليضع تحيزاته العقلية جانبًا ويقرّ حينها بأن الإله -الذي ينتقد شرائعه- حكيم، وكيف لا وهو يجعل الأوروبيين مركز الكون وما دونه هوامشه؛ ومع أن كانط وغيره لم يبارحوا مدنهم ولم يلتقوا قط بأفريقي ولا هندي إلا أنهم وصلوا لاستنتاجات اعتبروها خلاصات علمية!

صعود نزعة مركزيّة الغرب

يرتبط صعود نجم النزعة الأوربية مع تطوّر بحوث الأنثروبولوجيا، وذلك بالتوازي مع تطوير أدوات البيولوجيا ونظرياتها، والتي كان على رأسها (نظرية داروين)، حيث تنامى حضورها في علوم الأحياء؛ إلى جانب أنها تغلغلت في العلوم الإنسانية مشكّلةً لنا (الداروينيّة الاجتماعية).

تفترض الداروينية أن الكائنات الحية مرّت بسُلَّمٍ تطوُّري، حيث ينتقل الإنسان –على سبيل المثال- من الخلية الواحدة إلى كائن زاحف ثم كائن مقوص الظهر؛ لينتهي بالهوموسبيان أو الإنسان العاقل، وبهذا استنتج الأوربيون أن الإنسان مع أنه يتشابه في كل شيء إلا أن نسبة تطوره مختلفة، وبما أن الرجل الأبيض أكثر كمالًا وتقدُّمًا تقنيًّا فهو أكثر تطوُّراً، وهكذا باتت النزعة الأوروبية –في تسويغاتها العنصرية- تستند لا على الآراء الفلسفية بل على آخر ما توصلت له العلوم الحية التي تنمو في بيئتها.

وهنا علينا التنبّه أنه ينبغي عدم ربط هذه النزعة بقرن التنوير وما بعده، فهي ضاربة في عمق التاريخ الغربي؛ حيث نجد في كتابات أرسطو إشارات لتفوق الجنس الأبيض، ففي كتابه السياسة يصرح قائلا:”الشعوب غير المتمدينة بمن فيها الآسيويون أكثر خنوعاً من الإغريق أو الأوربيين”.

يجب التركيز جيدًا على قول أرسطو “بمن فيها الآسيويين” فمن شأن ذلك توضيح الصورة أكثر فأكثر، فأرسطو ليس سوى وريث للعصر الهلنستي الذي هو مزيج من الحضارة الفارسية واليونانية، والدارس للتاريخ يعرف أن الحضارة اليونانية ما كان لها أن تبزغ لولا العنصر الفارسي أو الشرقي، إلا أن أرسطو يصفهم بالخنوع، وربما هذه أول إشارة لما يسمى “استبداد الرجل الشرقي”.

اليونان في حرب مع فارس، ولا مندوحة في النيل من هذه الأمة التي لطالما تجرّأ حكامها فجيّشوا الجيوش لمواجهتها ووقفت في وجه الإغريق.

ولعلنا هكذا ندرك السبب وراء تعالي أوروبا على شعوب العالم عامّة والشعوب الذي أذاقتها الويلات كالشعوب آسيا والأمم المسلمة، إنه عنصر العداء السياسي، فالفرس مثّلوا تهديدًا دائمًا لبلاد الإغراق وهكذا بات وصف الشرقي بالخنوع مرتبطًا بالوجدان التاريخي الكاره للشرق، أما آسيا فقد حطمت أحلام الأوربيين والأمريكيين خاصة في فيتنام، فأمسى الفيتناميون مجرد قطّاع طرق، والمسلمون اكتسحوا أوروبا وفتحوا حصونها لقرون ولهذا فهم –بمنطق الأوروبيين- أعداء الله.

ذكريات الهزيمة

في فيتنام وبعد صراع طويل انتهى بهزيمة الفرنسيين في (ديان بين فو 1954)، وانتهى الأمر بطرد الأمريكيين (1964-1973)، وعوض أن يصبح المقاتل الفيتنامي في نظر العالم محرِّرًا لبلده من الاحتلال الأجنبي، أمسى صعلوكا وقاطع طريق، ومخربا وإرهابيا في نظر الجميع، وهكذا وجدنا أمريكا تشن حملة إعلامية شرسة ضد الفيتناميين، تكللت بإخراج فيلمًا خاصًّا من سلسلة أفلام Rambo المقاتل الأبيض الذي يحارب الشر ويحرر الفيتناميّين من الإرهابيين، وبالفعل لاقت هذه الحملة رواجا عالميا وانقلبت صورة النضال الفيتنامي إلى توحش وإرهاب.

وإذا ما عدنا إلى إنتاجات سينمائية أخرى سنلمس دائما تلك النظرة الدونية للرجل الأبيض تجاه الشرق، فكل الأعمال تقريبا تصور الشرق كمنطقة خارج التاريخ، فالبيوت قائمة على جدران من الطين والسكان يظهرون بملابسهم الرثة، وكلامهم غير الموزون؛ وتصرفاتهم التي تنم عن الجهل!

وهكذا كانت ولازالت نظرة الأوربي للرجل الشرقي، وهذه بالضبط إحدى المبررات التي دخل بها الاستعمار بلادنا، ففي نظر منظريه ليس سوى نقل للحضارة الأوربية وإشعاع نورها في ظلمة الشرق، لقد “آمنت أوروبا عندئذ برسالتها: لقد حملت الثقافة الإغريقية إلى الآسيويين، لقد خلقت النوع الإنساني الجديد، نوع الزنوج الإغريق-اللاتين” كما يقول سارتر.

تزييف الوعي

لم تكن مهمة الرجل الأبيض بتلك السهولة، وبالأخص حين واجه العالم الإسلامي الشامخ والضارب في جذور الحضارة الإنسانية، فماذا تفعل أوروبا أمام هذا الاعتزاز الذي لم تجد له المثيل؟

اتبع الأوروبيُّون استراتيجية التزييف، وقد بدأت كتاباتهم أول الأمر بالنبش في تاريخ الدين الإسلامي، وشخصياته، وهكذا بدأت بحوث الاستشراق ودراسة الإسلام، ولعل بطرس المبجّل وترجمته للقرآن الكريم 1143م، كانت أول خطوة في هذا الطريق، وهكذا لم يترك الاستشراق مجالا في الإسلام إلا وبحث فيه، ولكن بالطريقة التي رأى فيها الأوربيون الشرق.

لم يكُن مستغرَبًا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لدى لفيف من المستشرقين شخصًا مسيحيًّا ينتحلُ شخصيّة النبي، مرة كراهب يدعى “ماثيوس” -وهي التسمية الحقيقية حسب الراهب جيوبىت رييس دير نوجينت- طرد من الكنيسة، ومرة كرجل يلهمه الشيطان، وهكذا سافر المستشرقون بخيالهم حيث لم يصل بشر.

وبعد الاستعمار وليومنا هذا، ما زال الأوربيون على درب أسلافهم، ويبدو أنهم استعانوا هذه المرة ببني جلدتنا؛ فلا يبرح البعض القذف في جناب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وبمرور الوقت بات كل ما هو إسلامي محط انتقاص، حتى ما عدنا نمتلك حسب هؤلاء من أبطال، بل حتى التاريخ الذي نفخر به لم يكن سوى مرحلة من الظلام والبرربرية!

تدخل عملية التزييف هذه ضمن استراتيجية محكمة هدفها ضرب الروح الجماعية للأمة، فلكل أمة تاريخ تتكئ عليه إذا ما ضعفت أرجلها، فوحدها الأمة التي تمتلك التاريخ القويّ بإمكانها الصمود، وهذا ما يقلقهم، فيعملون ليل نهار ويكدون ويمكرون {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [إبراهيم: 46].

إنهم يريدون منا أن ننسى تاريخ أمتنا أو تسايرنا الشكوك حول أبطالنا العظماء، كي نرى في صلاح الدين مخرِّبًا لا محرِّرًا عظيمًا للقدس، ولكي نغير نظرتنا من كون خير الدين باربروسا قائدًا بحري وأسطورة حية إلى قرصان يخطف الأبرياء ويسرق متاعهم في غرض البحر، ولكي نتصور السلطان سليمان القانوني مجرد قاتل شهوانيّ لا أعظم من حكم الإمبراطورية العثمانية في أقصى اتساعٍ لها، وعوض أن نفتخر بمنجزات العثمانيين التي بدأها عثمان، سنتوجس منها ونرميها بالأباطيل.

إننا لا ندرك أننا نخوض حربا من نوع آخر، حربا روحية في المقام الأول ومعرفية في المقام الثاني، ولا شك أن أول ما آمانت به أوربا هو “السيطرة على العالم”، و”نظام المعرفة موجه بصورة مبرمجة لخدمة القوة والضبط والسيطرة وتغيير العالم”[الدولة المستحيلة، وائل حلاق، ص: 152].

إنها الرغبة في التصرف في العالم وفق منظور خاص، منظور الرجل الأبيض الذي لا يرى الثقافات الأخرى إلا في تعارضها مع ثقافته، ولا يستوعب فكرة الاختلاف، ويسعى لبناء عالم واحدة يتحكم فيه (العولمة)، ولكن كيف يفعل وهناك من لازال متشبثا بتاريخه وثقافته، أليس الأفضل أن ننتزع هذا الاعتزاز وهذه الثقافة من الصدور؟

في الختام لا يسعنا سوى الإشفاق من إصرار الرجل الأبيض على إبراز تفوقه في كل مرة، ومن انجرار المثقفين الذين كنا نقف لهم احتراما -مع اختلافنا فكريا معهم- وراء أسطورة تفوق العرق الأبيض، ومن اتباع بني جلتدنا لنغمات ناي أوروبا وكأنهم جرذان بلدة هاملن المروية في التراث الألماني، فلا يسعنا في هذا المقام سوى الشفقة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد