حياة المهجر.. بين الثبات وضياع الهوية!

قدّر الله لآدم أن يهبط إلى الأرض بعد أن خلقه من ترابها، ليستخلفه في الأرض وذريّته من بعده، ويقوم على إعمارها لحكمةٍ هو يعلمها سبحانه وتعالى {وإذْ قال ربّك للْملائكة إنّي جاعلٌ في الْأرْض خليفةً ۖ قالوا أتجْعل فيها من يفْسد فيها ويسْفك الدّماء ونحْن نسبّح بحمْدك ونقدّس لك ۖ قال إنّي أعْلم ما لا تعْلمون} [البقرة: 30]، وفي الحديث النبوي يقول صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيّب والسهل والحزن وبين ذلك). [رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وصححه الألباني]

فكان من ذريّة آدم الأنبياء والرسل والصّالحين كما المتجبّرين والمتكبّرين، وجميعهم غطّت أجسادهم التراب ودفنوا فيها، فهم بشرٌ خُلقوا بأمر الله وانتقلوا إلى عالم البرزخ بأمره، ثمّ تعود الرّوح إلى الأجساد بأمره، ومرجعها يوم الحساب لتسأل كلّ نفسٍ عن صنيعها في أرض الله، فكلّ شيء في هذا العالم يشيخ ويكبر ويهيّئ نفسه للزّوال إلّا الحيّ القيّوم.

خلق البشر من تراب، يولدون ويموتون، إلا أن نزعة الكبر تغزوهم، فيتكبّر الإنسان على أخيه الإنسان، فصارت الألوان والأعراق والأنساب والأموال والشهادات واللّباس المعايير التي تحدّد مقام الإنسان وعلوّه لا التقوى والأخلاق والمبادئ والقيم.

يتعالى الناس بعضهم على بعض، ويحاربون من يسمّوه مختلفاً عنهم لدرجة البغض، فيعطون الحقّ لأنفسهم بإهانته وإذلاله وتشريده واستحالة أمواله ودياره وحتّى قتله، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ] الحجرات:13[، وجهلوا آخر ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خطبة الوداع، فقد قال: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربيٍ على عجميٍ فضلٌ إلّا بالتقوى)

الهوية الهجينة والمسلم المعاصر

لعل أكبر مصابٍ مني به العالم الإسلامي كان بانهيار وحدة المسلمين، وتفرّقهم وضعفهم، فقد فتك الاستعمار بهم فتكاً، وغرق العالم من بعدهم بالحروب والعنصريّة والانحلال، وأصبحوا غرباء حتّى في أوطانهم، وتشتّت الكثير منهم في أقطار الأرض.

لقد كان لانتهاء الحرب العالميّة الثانية أثر كبير في استقطاب فقراء المسلمين وأثريائهم –على حد سواء- إلى أوروبا، بهدف إعادة الإعمار وتدوير عجلة الصناعة، فاحتاجوا للعمالة رخيصة اليد من بلاد المسلمين والدول الفقيرة، مستغلّين معاناتهم من مراحل الاستعمار، كما أنهم لم يلقوا بالاً لدينهم، فإذ بهم يتفاجؤون بالإسلام ينتشر بينهم، وتقام المساجد والمنظمات الإسلاميّة على أراضيهم، فبدأ الخوف ينتشر بينهم من أسلمة أوروبا والعالم، ليكتشفوا أنّ هناك فجوة بينهم وبين المسلمين الذين يعيشون ويتربّون بينهم.

أظهر مشروع أبحاث لجامعة برلين سميّ Heymat -أي نماذج الهوية الأوروبية الإسلامية الهجينة-، والذي أقيم لدراسة حال شبان وفتيات الجيل الثاني والثالث للمهاجرين المسلمين إلى ألمانيا، وجودَ مشكلةٍ في اندماج الكثير منهم، فهم لا يشعرون بانتمائهم لألمانيا ولا لموطن آبائهم، ممّا أدّى ببعضهم إلى رفض الاندماج في المجتمع الذي تربوا فيه تماماً، فلجأ بعضهم للعنف والتطرّف أو المخدّرات كطريقةٍ للتّنفيس عن معاناتهم وانكسارهم النفسي.

صنّف البحث هويات المهاجرين ضمن هويّتين واضحتين بين الشباب، فأكثرها ظهوراً هي الهويات الهجينة (Hybrid identity) * وتعني شخصاً يحمل ثقافتين أو أكثر، يظهر كصورةٍ جديدة مهجّنة، تشكّلت من تلاصق قطعٍ من أوراق أصليّة مختلفة، لتضيع ملامحها، فلا يميّز أيّهما هو الأصل وأيّهما الفرع.

أما الإسلام الحداثي (Neo islam) وهي الهويّة الثانيّة، فقد كانت محاولةً لصنعِ هويّةٍ خاصّة بالفرد من أصول مهاجرة، عن طريق المحافظة على بعضٍ من هوية الدين الإسلامي التي ورثها كعادة وعرف عن أهله، إلى جانب خضوعه لسياسة الأغلبيّة في ألمانيا حتّى يتمّ قبوله في مجتمعه ومحيطه، ولا يوجد سمات موحّدة لهكذا هويّة، فكلّ فردٍ يجد هويته الخاصّة به، لنجد منهم مثلاً المسلم (الكيوت) والمسلم (المغنّي) إلى المسلمة (الفيمينست) والمسلم الذي يدعو للتطبيع مع أفعال قوم لوط.

مسبّبات ضياع الهويّات

استنتج البحث العديد من الأسباب التي تفرض ضياع الهوية، أهمها:

عدم اهتمام الحكومة بدمج الجيل الأوّل وآبائهم بالمجتمع الجديد، حيث اعتبرتهم آنذاك مجرّد عمالةٍ أتوا لأداء مهمّة معينة وسيعودون، إضافة إلى معاملة هذه الأجيال الألمانية من أصولٍ مهاجرة كحال الغرباء، فيغيب عنهم التساوي بفرص العمل والدّراسة مع الفرص التي يحصّلها نظراؤهم من الألمان الأصليّين، فالمهاجرون وخاصة المسلمين منهم هم عرضة لعدم الحصول على عمل بسبب أصولهم العرقية أو حتّى أسمائهم.

كانت أغلب الأسباب متعلّقة بازدياد ظاهرة “الخوف من الإسلام” -إسلاموفوبيا- في أوروبا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث يصبح الخوف من كلّ مسلم –ولو كان مسلمًا بالاسم فحسب- أمراً طبيعيّاً يعزّزه الإعلام والسياسيّون، وسياساتهم ضدّ الدّول المسلمة، وبالذات تركيّا التي لم يسمح لها بالانضمام لدول الاتحاد الأوروبيّ بعد.

لذا يؤكّد باحثو المشروع على أنّ الإسلام وأجياله من الأصول المهاجرة ينتمون لأوروبّا وليسوا مجرّد غرباء، كما أن لديهم من المزايا ما يجعلهم فاعلين بشكلٍ إيجابيٍّ في مجتمعهم، بحيث يمكن لهم أن يشكّلوا جسوراً تسهّل التّواصل بين ثقافات أوطانهم وبين ثقافات البلاد التي لجأوا إليها.

أبناء المسلمين بين وطنٍ يرفضهم ومهجر ينكرهم

“لا أنا لا أشعر بأنّي ألمانيّة ولا عربيّة، ولكنّي واثقة بأنّي مسلمة، أنا مثلك تماماً يا أمّي أقف في الوسط بين الثّقافتين، فهنا في ألمانيا لديّ أيضاً مشاكلي لأنّي محجّبة، لست بيضاء، إنني مختلفةٌ عنهم، وعندما أزور مسقط رأسك لا أفهم ثقافتكم جيّداً وكأني غريبة عن وطنكم أيضاً، فأشعر بأنّي خليطٌ غريبٌ من الثّقافتين، لديّ 10% من كلّ منهما، فهناك شيءٌ ينقصني”.

صورة تعبر عن ضياع الهوية

هكذا أجابت فتاةٌ من أصول مهاجرة عربيّة أمّها عند سؤالها “ماذا يربطك بالوطن والعائلة؟” في حوار مرئيٍّ بينهنّ، نشر على منصّة ألمانيّة إعلاميّة، وربّما سمع البعض عن ردّ اللّاعب الألمانيّ من أصل تركيّ مسعود أوزيلMesut Özil على انتقادات طالته بسبب التقاطه صورة مع الرّئيس رجب طيّب أردوغان فقد قال ” لقد التزمت الصّمت لوقت طويل، أشعر أحياناً بأنّي غير مرغوبٍ به، لم يحاول أحدٌ من زملاء النّادي الّذي أنا عضوٌ فيه أن يدافعوا عني، فعندما أقوم بعمل مشرّف أنا ألماني، وعندما أخطئ أنا مهاجر”

وعلى الرغم من أنّ هذه الأجيال من أصول مهاجرة لا يعرفون وطناً غير هذا الوطن الذي ولدوا ونشأوا فيه وربما لا يتكلّمون سوى لغته، إلّا أنّهم يعاملون فيه في كثير من الأحيان كالغرباء، وهذا حال الكثير ممّن يولد وينشأ في دول الغرب وربّما في بلاد العالم أجمع، فمن الغريب بالنّسبة للأوروبيّين أن تقول لهم أنا منكم بعينين بنيّتين وشعرٍ أسود لتتهافت عليك الأسئلة مستفسرة عن أصلك الحقيقيّ.

ويبدو السّؤال عن الأصل سؤالاً عادياً فضوليّاً فقط، إلا أنّه مع مرور الوقت يتحوّل لسؤالٍ مزعج يثير المشاعر المتضاربة في نفس من يُسأل، ويولّد صراعاً في تحديد الانتماء، فيوجب عليه تحديد انتمائه لجماعة ما، “فكيف لي أن أنتمي لوطن يرفضني لأنّي مختلف اللّون والعرق عنهم مع أنّي نشأت بينهم؟، وما هو الوطن الآخر الّذي يحدّثني عنه والديّ؟، فأنا لا أعرفه جيّداً وأشعر بأنّي غريبٌ بينهم أيضاً ” .. هكذا يقال.. وهذا -لا ريب- شكلٌ من أشكال الصّراع الدّائم الذي يعايشونه منذ الطّفولة ملازماً لهم، ينشأ ويكبر معهم؛ فهذه التّساؤلات لم تكن لتوجد، لو لم يرفَض اختلافهم، أو لو لم يكن هناك تفرقةٌ وتمييزٌ عرقيٌّ وتعصّب للقوميّة.

إن أشدّ رفضٍ نشهده الآن هو رفض من يتّبع دين الله، فالقوانين العالميّة التي وضعت لحماية حقوق الإنسان وحريّته التّامة بالمقام الأوّل تستثني أحياناً الكثير من الفئات، ومن أهمها المسلمون، فنراها تتغيّر عندما يشعرون بالتّهديد، ولعلّ ما نشهده الآن في فرنسا من محاربة للمسلمين مع أنّ الكثير منهم من الأوروبيّين الأصليّين هو أكبر مثال، فبعضهم مازال يحمل شيئاً من جنون نابليون، وصدق قول الله تعالى }ولن ترْضىٰ عنك الْيهود ولا النّصارىٰ حتّىٰ تتّبع ملّتهمْ ۗ قلْ إنّ هدى اللّه هو الْهدىٰ ۗ ولئن اتّبعْت أهْواءهم بعْد الّذي جاءك من الْعلْم ۙ ما لك من اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ] { البقرة: 120[