جناية الحاضر على التاريخ.. تأثير النزعات المعاصرة في فهم الماضي

image_print

اعتدنا سبر أحداث التاريخ لرصد الخيوط التي كوّنت النسيج الحالي للحياة والمجتمع، وطفقنا نعدّد الأسباب التي أدت إلى انبثاق عدد من القضايا، وبحثنا عن التكوين النفسي لهذا الجيل بين تلافيف الماضي، ولكن هل للحاضر سطوة على الماضي كما نرى سطوة للماضي دومًا؟ وهل هناك جناية للحاضر على الماضي؟

القولبة الفكرية للماضي

من السمات الواضحة لهذا العصر هي القولبة، كل شيء بات مقولبًا بشكلٍ لا يقبل إعادة النظر أو التفاوض، ونجد أنّ الملَكَة الفقهية باتت ضامرة عند الكثير من المشتغلين في مجال الفكر والدعوة فضلًا عن عموم الناس، فأصبح الكثير لا يحسن تصوّر الأمور إلا في شكلٍ وقالبٍ واحد، إما أبيض أو أسود، إما حلالٌ خالص أو حرامٌ مُطلَق، دون إدراك أنّه ثمة لون رماديٌ، وألوان كثيرة بين هذين اللونين، وبحسب القرائن المصاحبة لكل قضيّة وحالة يكون اللون الموافق لها هو المناسب، ولكن ما نراه الآن هو الزجّ بصاحب السؤال أو الإشكال إلى أقصى غاياته لعدم امتلاك مرونة الملكة الفقهية التي تضع كل حالةٍ على نحو ما يناسبها.

وهذه الحالة لا تتوقّف عند عتبة الحاضر، بل امتدّت لتفعل فعلتها بين دهاليز الماضي، فنجد أنّ البعض عندما يعودون لقراءة أحداثِ الماضي لا يُحسِنُون خوض غماره دون اصطحاب قوالبهم الفكرية، فيصنّفون الأحداث حسب مقاييس قوالبهم، بل إذا وجدوا أنّ بعض السياقات لا تحتمل القولبة، فإمّا أن يمزقوها لتناسب القالب، أو يطمسوها، ثم يستنطقون قوالبهم للخروج بالنتيجة التي رسموها بداية، وتصبح كل الأحداث التاريخية تدور بشكل “منسجم” مع أفكارهم وتخدمها وكأن التاريخ ما كُتِبَ إلا لهم، فالحاصل أنهم اعتقدوا رأيًا ثم حملوا أحداث التاريخ عليه دون تورّعٍ أو عدالة.

قراءة الماضي تحت ضغط الواقع

تولَّدت العديد من المصطلحات المعاصرة نتيجة تَولُّد بعض التيارات الفكرية التي ساهمت في تشكيل وتكوين الواقع الحالي، وهذا الكيان الاجتماعي الجديد أحدث ضغطًا على المسلمين المعاصرين؛ فاضطروا كذلك إلى صك بعض المصطلحات لينافحوا بها عن الدين، فبعد الشقاق الذي وقع في متسلسلة التاريخ الأوروبي بين العلم التجريبي والدين، والذي أفضى إلى جنوح النزعة العلموية؛ إذ لم يقتصروا على الكاثوليكية، بل انتقلوا بهذا الحكم إلى كل ديانة، فأخذ بعض المشتغلين في الساحة وضع الدفاع عن طريق تعزيز المصطلحات التي توائم بين “العلم” و “الدين”، وتضع الشقاق بينهما، ظنًا منهم أنهم هكذا يخرجون الإسلام من مأزقٍ كبير ضائق.

 وبالرغم من وجود بعض جوانب النظر حول هذه المصطلحات وتأثيرها في الواقع، ومآلات اعتمادها كمسلّمات مرتبطة بهذا الواقع، إلا أنّ مناقشتنا في هذا المقال ستكون حول تأثيرها الممتد في عمق الماضي والتاريخ، فمع اعتياد واعتماد هذه المصطلحات وغيرها، أصبح الخروج عنها أو تصوّر الواقع بدونها أمرًا شاقًا خارجًا عن سياج العقل الجمعي المعاصر، فنجد أنه قد نُقِلَت هذه المصطلحات إلى الحِقَب الماضية ووُصِفت بها، فعند ذكر العلماء المسلمين وما قدموه، أول ما يتبادر إلى الذهن هم العلماء الذين أسهموا في جانب العلم التجريبي كالبيروني وابن الهيثم وغيرهما، ثم تتم عملية الانتقال الثانية والتي تتمثل في اتخاذ هذه المنجزات كبرهانٍ ساطع على كون الإسلام لا يعادي العلم التجريبي ولا يتعارض معه، ثم يُحصَر تقدُّم المسلمين في هذه الحقبة، وهذا بمثابة اعتراف ضمني لمعيارية التقدم المادي لنهوض الأمم، ثم نعود مرة أخرى إلى واقعنا لنرى أن التقدم المادي ليس بين أيدينا، فنعيش تحت ضغط سؤال “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”، وهكذا دواليك نعيش في غمرة تلك الدوامة.

والإشكال الذي وقع فيه من يسير في هذا المضمار يتمثل في أمرين أساسيين:

أولهما: أنه تم استدعاء إشكالات الحاضر ومصطلحاته التي نتجت عنه إلى حِقَب في الماضي لم تعش هذه الإشكالات، وبالتالي فإن استدعاء هذه المصطلحات يعد باطلًا لا معنى له، فهي بمثابة تصدير بطارية هاتف إلى زمن ما قبل الهاتف، فأصحاب البطارية يُنَظّرُون حولها، ويتناقشون بجد عن مدى جدواها، بينما لو بُعث أهل هذا الزمان لنظروا باستغراب إلى هذا الجسم العجيب، ثم يتركونه ويذهبون، إذ لا عمل له عندهم ولا طائل أو معنى يذكر من وجوده.

ثانيهما: إنّ تلك العقلية المبرمجة تحت ضغط الواقع بخست حق الكثير من العلماء والعلوم بحصرهم العلم في العلماء الذين أسهموا إسهامات تجريبيّة، لكن لو أوردنا علم الحديث فقط كمثال لعلم عظيم امتلك منهجية رصينة مذهلة في إثبات صحة الروايات من جهة المتن والإسناد، وهو من أجلّ العلوم وأدقها، بل من مفاخر هذه الأمة، سنعلم أنّ عبقرية العلوم لم تُحصَر في السياق التجريبي فقط، بالإضافة إلى أنّ أصحاب ذلك الطرح تغافلوا أو غفلوا كون الكثير من العلماء الذين برعوا في العلوم التجريبية كانوا في ذات الوقت فلاسفة ومؤرخين وفقهاء، لنعرف الواقع الحقيقي حينها وهو أنّ التقدم في العلوم التجريبية كان نتيجة طبيعية لوضوح الهُوية ونضوج البناء الإنساني على ضوء تلك الهوية، فحينما يصل المجتمع إلى هذه الحالة من النضج؛ فإنه ينمو طبيعيًا ليتمدد في مساحة الكون بمختلف تشكلاتها ليحقق الاستخلاف الذي نما منه ولأجله، لذا فإن رؤية الماضي وقراءته تحت ضغط الواقع الحالي يؤدي إلى طمس هذا الماضي ويعيق الناظر إلى هذه القراءات عن استشفاف الحالة الحياتية الحقيقية للمجتمع المسلم حينها، ويضع غشاوة على تلك العين التي تبحث بين سطور تلك القراءات عن ملامح النهضة.

سجن الماضي في مصطلحات الحاضر

عندما طُعِن الإسلام ونُعِتَ بأنه دينٌ دوغمائي، لا يحمل فكرًا أو فلسفة، فبدأ ينشأ ويتشكل مصطلح “الفكر الإسلامي” ليناوئ تلك الاتهامات ويتحرك في مسار تجريدي يضاهي المسارات المعادية له، وبدأ المصطلح في النمو لينتقل إلى تسميات على مستوى الأفراد كـ”مفكر إسلامي” وغيره على إثر هذا الواقع الجديد.

لكن موطن الجناية هنا على الماضي هي تصدير هذا المصطلح إلى الماضي واستخدامه في سياقات تاريخية لم تشهد تلك الإرهاصات التي ولّدت هذا المصطلح، وبالتالي فإن مجرد ذكر هذا المصطلح عند السرد التاريخي يعتبر إعادة تشكيل وهيكلة لتلك الحقبة وفق معطيات الواقع الحالي، وكذا تُعَدّ اعترافًا ضمنيًّا لنجاح الغزو الفكري الذي اجتاح العالم الإسلامي في ترسيخ الانفصالية بين العقيدة التي تقتضي العمل وبين الفكر المجرد، وأنّ هذا المضمار “الفكري” كله في عزلة عن الإنتاج العلمي بكافة مساقاته، وهذا النجاح لم يتوقف عند حدود الحاضر، بل استطاع أن ينتقل إلى الماضي ويرسمه وفق مصطلحات منبثقه من غزوه الآني.

قراءةٌ ضيزى!

يحتّج الكثيرون بآرائهم ويضفون عليها نكهة وثائقية من خلال قياسها على أحداثٍ وسياقات في الماضي، ويلزمون الآخرين بقولهم خصوصًا عند تشابه القضايا والأحداث، لكن موطن جنايتهم هنا أنهم تجاهلوا قرائن الزمان التي تحيط بكل حراكٍ وقع فيه، إذ إنّ الأحداث لا تحدث في مساحة فراغ عدمية فيُضمَن تمدد الحدث في هذا الفراغ بذات الطريقة في كل مكان وزمان، وإنما تحدث وسط قرائن متعددة ومتشابكة تُمثِّل الوعاء الذي يُشكِّل هذه الأحداث ويعطيها طابع معين، وبالتالي فإن محاولات القياس المجردة على الماضي دون ذكر القرائن وفهم ما تقتضيه لخروج الحدث بهذا الشكل يعتبر تجنّيًا على الماضي لطمس قرائنه، وظلم لأناسٍ كُثُر حُمِلت أقوالهم وأفعالهم على غير محملها وزُجَّ بها وسط قرائن جديدة منتظرين منها نتائج متشابهة!

ما واجبنا نحو الماضي؟

إنّ أول واجب علينا تأديته هو رفع الظلم عن الماضي وقراءته قراءة موضوعية غير متأثرة بضغوطات الواقع أو متقولبة بأفكاره أو محبوسة في مصطلحاته، إذ إنّ هذا الأمر لا ينحصر في كوننا نرغب في قراءة موضوعية واعية للماضي، وإنما يمتد لنزع الغشاوة التي وضعناها بأيدينا أثناء قراءتنا له، وبالتالي ضمان الخروج بأحكام واستنباطات ورؤى أقرب للصواب وأكثر واقعية، حينها يكون في مُكنتنا حقًا الاستفادة من هذا الماضي، لأننا رأيناه كما هو، بعينه هو، لا بعدستنا نحن، وكذا ستتبلور الأخطاء الحقيقية التي كانت في رحابه بوجهها الحقيقي دون تحريف يصيبها من لوثة قوالب الحاضر، لذا يجب على المشتغلين في الساحة الآن الاحتياط من استخدام أي مصطلح عمومًا قبل سبره وتمحيصه، والمصطلحات التي تخص الماضي خصوصًا لِما فيها من التداعيات المذكورة آنفًا، ولعل هذا يكون من أُولى الخطوات وأَولاها التي تسهِم في تحرير الماضي وما بُني عليه من تلك القوالب، وبالتالي صياغة واقع أكثر توازنًا ونضجًا.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد