ثنائية الكوارث والأفكار.. ما مدى الارتباط بينهما؟

إذا نظرنا إلى مساحة التاريخ الإنساني؛ سنجد عددًا كبير من الكوارث الكبرى التي راح ضحيتها عشرات الآلاف بل أحيانًا ملايين من البشر، وتُمثِّل هذه الحوادث -سواء كانت على إثر كوارث طبيعية، أو بما كسبت أيدي الناس- علامات استفهام عند المعاصرين لها أو الأجيال اللاحقة، تحاول الوصول إلى تفسير لتلك الحوادث، وعند كل كارثة نجد عددًا لا بأس به من التفسيرات التي تريد حمل الكارثة على محملٍ بعينه، ولكن المُلفت للانتباه حقًا لا يتمثل في علامات الاستفهام تلك التي يتداولها عموم الناس، ولكنها تلك الأفكار التي انبثقت خلال الكوارث وعلى إثرها تغيَّر وجه العالم بأسره، أو تلك الكوارث التي كانت مآلًا لبعض الأفكار.

سنتناول بإذن الله في هذا المقال نماذج لتلك الكوارث ونحللها، حتى نتمكن من فهم هذه الثنائية التي تُعيننا بحول الله على توجيه المسار الفكري المعاصر توجيهًا صحيحًا بعد الكارثة المتمثلة في زلزال سوريّة وتركيا.

زلزال لشبونة ١٧٥٥م

في اليوم الأول من نوفمبر عام ١٧٥٥م، الموافق لعيد القديسين، وقعت سلسلة من الزلازل الشديدة في مدينة لشبونة، عاصمة إمبراطورية البرتغال في القرن الثامن عشر، وتسببت تلك الزلازل في أضرارٍ جسيمة، ودمرت المباني العامة والمنازل، واندلعت على إثرها الحرائق وراح ضحيتها نحو ٦٠ ألف شخص. [زلزال لشبونة-مجلة المنار]، وتضاربت التفاسير حول سبب هذا الزلزال ما بين سخط الإله والسؤال عن: أين الإله؟ وغير ذلك.

بحلول هذه الكارثة وجدت الأفكار التي كانت تتكون منذ بداية القرن الثامن عشر المعروف بعصر التنوير في متسلسلة التاريخ الأوروبي طريقها الذي ينحدر بها سريعًا نحو الهاوية الإنسانية دون أن يشعر أرباب تلك الأفكار.

لقد كان ڤولتير -على سبيل المثال- أحد أبرز مفكري وأدباء عصره، حيث وصفه فيكتور هوجو بقوله “إن اسم ڤولتير يصف القرن كله، فإذا كان لإيطاليا نهضة، ولألمانيا إصلاح، فإن لفرنسا ڤولتير”، وقد كان لفكره وأدبه الباع الأكبر -بالطبع مع رفاقه التنويريين مثل جان جاك روسو وغيره- في رصف بقية توجه الطريق الفكري الأوروبي، وقد كانت معظم آرائه الجدلية تدور حول مشكلة الشر، ويتبيّن هذا من كتابه الصادر عام ١٧١٣م الذي ناقش فيه الإشكال، بالإضافة إلى نقد التراث وإعادة النظر إلى التاريخ بنظرة عقلانية بعيدًا عن الأساطير، وكذا نقد الدين، ومركزية العقل.

استفزّ زلزال لشبونة ڤولتير ليُعيد النظر مرة أخرى إلى ماهية الشر، حيث اعتبر أنّ طبيعة الإنسان ليست شريرة، ولكنه قد ينحرف عن الطبيعة البشرية بحلول الكوارث كما حصل في لشبونة، وهو ما عبّر عنه فولتير عندما حل الزلزال بلشبونة عام ١٧٥٥م في قصيدته التي ندد من خلالها بالشرور الموجودة في العالم وندد كذلك بالتفسيرات التي قُدمت لهذا الزلزال خاصة تفسير رجال الدين وتفسير جان جاك روسو القائلة بأن مصدر الشرور في العالم هي أفعال البشر الطاغية.

ومن الواضح أنّ النزعة التشاؤمية ازدادت عنده، وهذا ما عبّر عنه في روايته “كنديد” ١٧٥٩م التي سخر فيها من الفلسفة التفاؤلية، وقد التقط رونالد سترومبرج هذا التغيُّر حيث قال “يبدو لنا أنّ ڤولتير عندما تقدمت به السن بدّل اتجاه عقله، إذ اتخذ مسارًا أشد كآبة وظلامًا، وهذا أمر طبيعي عززه موت محظيّته، وفتور صداقته مع فريدريك الكبير، وحرب السبعة أعوام، والزلزال الرهيب الذي ضرب مدينة لشبونة عام ١٧٥٥م”.

هذه التركيبة الفولتيرية -بالإضافة إلى رفاقه التنويريين- أدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، والتي كانت من أهم إنجازاتها كما يقول د. إبراهيم شاهين أنها نقلت مركز القوة من الكنيسة إلى الدولة، حيث إنّها بحسب تزفيتان تودوروف “المنعطف الكبير الذي يعتبر مسئولًا أكثر من أي منعطف آخر عن تشكيل هُويتنا التي نحن فيها الآن”، وتمخّض منها القرن التاسع عشر الذي كان مفككًا على إثرها، بخلاف تماسكية القرن الثامن عشر، ليستمر الانحدار بظهور نظرية داروِن التي حيونت الإنسان، وكان تأثيرها مركزيًا لدرجة أن جيمس بيرك وصفها بأنها “أحدثت دويًّا في العالم يشبه دويّ انفجار القنبلة”، ليظهر بعده نيتشه الذي كان نتيجة طبيعية لهذا الانحدار، حيث إنه أنكر المطْلَقات والأخلاق والمعنى، ليعيش بجلاء الحيوانية الداروينية، مما دفع د. عبد الوهاب المسيري للقول: “لحظة ظهور نيتشه هي لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ الحضارة الغربية، نيتشه أعلن الفضيحة كاملة”.

أتى من بعد ذلك ماركس الذي -بحسب سترومبرج- ربط بين النظريات ووضعها، وقد تنبأ ميشيل فوكو بمآل هذه الأفكار حيث قال “الإنسان سوف يندثر مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر”. وهكذا يمكن أن نرى بجلاء كيف ساهمت هذه الكارثة الطبيعية في تطور المتسلسلة الفكرية إلى هذا الحد.

 هيروشيما – السادس من أغسطس عام ١٩٤٥م.

أما الآن فيتجلى الشِق الثاني، وهو الكوارث التي كانت مآلًا لأفكار، حيث تتجلى في تلك الكارثة المروِّعة ما أنتجته قيم الحداثة من كوارث ومصائب، وهو نِتاج طبيعي لتلك الأفكار، “لقد ابتلعت هذه الحضارة في مشهدها المعاصر طُعْمَ الداروينية بوعي أو بغير وعي، فأضحى مبدأ الصراع مبدأ فاعلاً، وصار قانون بقاء الأصلح أمرًا حاكمًا، وأصبح الموت هو محرك التقدم والتطور؛ فإما أن تفترس غيرك، أو تكون الفريسة، وهو أمر وثقه تشارلز داروين  نفسه في مذكرات رحلته الشهيرة على «البيجل»، فقال ملخّصًا تاريخ الغرب: أينما خطا الأوروبيون فإن الموت يطارد سكان البلد الأصليين”[رواية هيروشيما]، وامتد التأثير الدارويني في التعبئة ضد اليابانيين، حيث كان الأميرال وليم بل هلسي -قائد قوات جنوب المحيط الهادي- يَحْثُ جنوده على قتل اليابانيين، ناعتًا إياهم بالقرود الصفر، وقد كان الناس يتساءلون فعلاً: هل يُعَدُّ اليابانيون من البشر؟!

كتبت مجلة التايم: “الياباني العادي جاهل ولا يمكن التفاوض معه، قد يكون إنسانًا، لكن لا شيء يدل على ذلك”.

وقد التقط الصحفي البريطاني إيرني بايل -الذي اشتهر بتغطية شؤون الحرب بعد انتقاله من أوروبا إلى المحيط الهادي- هذه النظرية القائمة التي كانت تسيطر على العقل الأمريكي في ذلك الحين، وكتب: “كنا نشعر في أوروبا أن أعداءنا مع وحشيتهم ودمويتهم لا يزالون بشرًا، ولكن هنا كانت الانطباعات عن اليابانيين مختلفة، فقد كان يُنظر إليهم باعتبارهم شيئًا أَحَطَّ من الإنسان، ومثيرًا للتقزز والاشمئزاز، تماما كشعور البعض تجاه الصراصير والفئران”. [رواية هيروشيما].

وبعد إلقاء القنابل، وارتكاب الجريمة؛ تجلّت النزعة النيتشوية الماركسية اللاأخلاقية، فسحقوا كل الاعتبارات الآدمية وكل المعاني القيمية، حيث إنهم اعتبروا أنّهم حصلوا على فرصة سانحة لدراسة تأثير الإشعاع على الناس الناتج عن القنابل الذرية المُجرَبة لأول مرة، فقد كان اليابانيون مجرد فئران تجارب، حيث قام أحد العلماء المسؤولين عن هذه الدراسة برفع دماغ كان قد استخرج من جثة ياباني للتو ليعلن بكل برود “بالأمس كانت الأرانب، واليوم اليابانيون”[رواية هيروشيما].

سنلاحظ أنّ هذا الإجرام المروّع وتلك الكارثة نتيجة مباشرة للأفكار كما أسلفنا، وفي ذات الوقت انبثقت أفكار وفلسفات جديدة مرة أخرى عن هذه الكارثة، فبعد الصدمة التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت الدنيوية والمنطقية وأصبحت اللغة مصدر كبير للتفلسف، وجنحت النزعة الفردانية، ثم انبثقت مرحلة ما بعد الحداثة منذ ثورة الطلاب عام ١٩٦٠م.

زلزال سوريا – تركيا السادس من فبراير عام ٢٠٢٣م.

تباينت التفاسير -كما العادة- حول هذا الزلزال المروّع الذي وقع مؤخرًا، وهذا الخِضَم التفسيري متوقَع وطبيعي جدًا في مرحلة الصدمة التي لا زلنا فيها، وخِطاب التثبيت ودحض الشبهات وتعزيز المعاني الكبرى للحياة مثل معنى الابتلاء وغيره مهم جدًا في هذه المرحلة -مرحلة الصدمة-، ولكن ما يجب التنبه له هو مرحلة ما بعد الصدمة، وهذه المرحلة أشد خطورة في تشكيل المرحلة المقبلة، إذ إنّه لا مفرّ من نشوء أفكار منبثقة عن هذه الكارثة، وهذه الأفكار تتبلور _ غالبًا _ في مرحلة ما بعد الصدمة، أو تتأخر قليلًا لتظهر في مرحلة المُعايشة، لذا نلاحظ في زلزال لشبونة أنه رغم كثرة التفاسير التي انبثقت خلال مرحلة الصدمة، إلا أنّ التفسير الذي طغى هو تفسير ڤولتير، والذي أصّر على إعادة إنتاجه في روايته بعد الكارثة بأربع سنوات، وبالطبع ثمة عوامل أخرى في التصوّر الكلي في متسلسلة التاريخ الأوروبي، ولكن ڤولتير أخذ بزمام الأفكار حينها.

لذا على المصلحين والمشتغلين في الساحة الآن استباق الأحداث، وأخذ خطوة إلى الأمام، لضمان توجيه هذه الشذرات الفكرية -التي حتمًا ستتضخم عاجلًا أو آجلًا- إلى المسار الصحيح التي يجب أن تسير فيه، فلو كان زلزال لشبونة سببًا في جنوح النزعة الإلحادية، فإننا بمُكنتنا أن نجعل هذا الزلزال سببًا في إحياء الروح النهضوية.

والحق أنني أرى مقومات هذه الصحوة متواجدة في الساحة الآن، ويجب اقتناص هذه الفرصة وعدم تفويتها، لأنها -بهذه الحيثيات- من الصعب أن تتكرر.

ويتحقق هذا عن طريق التقاط المعاني الكلية الكبرى التي تجلّت في مرحلة الصدمة، بعيدًا عن التفسيرات الجزئية، والتي تمثلت بشكل أساسي في نقطتين رئيسيتين:

١- حضور روح الأمة، وتبلوُّر مفهوم الجسد الواحد.

٢- رسوخ العقيدة في ساحة البلاء.

وإذا تأملنا هاتين النقطتين؛ سنجد أنهما يمثلان جناحي النهضة الإسلامية الصحيحة، فأخذ زمام الأمور بالتركيز عليهما والاستمرار في الترويج لهما بشتى الوسائل؛ سيُحرِّك السيل الفكري نحو هذه القضية، والساحة الآن في حالة جيدة من الاستعداد للتلقي لوجود عوامل عدة بإمكانها احتضان هذا التوجه -لا يسع المقام لذكرها-.

ما مسؤوليتنا تجاه الثغور المنبثقة عن الكارثة؟

لمّا استشهد عدد كبير من حفظة القرآن الكريم في معركة اليمامة؛ تنبّه المُلهَم المُحدَّث عمر بن الخطاب لهذا الخطب، وأدرك أن ثمة ضرورة تُحتّم جمع القرآن الكريم خوفًا من ضياع بعضه، فأشار ذلك على الصديق، وبعد مداولة المسألة؛ شرح الله صدر الصديق لها ومنَّ سبحانه وتعالى على الأمة بجمع القرآن الكريم.

وقد انبثقت هذه الفكرة عند الفاروق بناءً على نازلةٍ ألمّت بالأمة حينها لم تَعرِض لها من قبل، فلجأوا رضوان الله عليهم للقيام بشيء جديد لم يقع في عهد النبوة، ولكنهم أدركوا _بالقرائن الواقعة_ أنّ هذا الأمر لازمٌ عليهم، وصدّ الخطر الذي يلوح في الأفق من ضياع بعض القرآن بسبب فَقْد القرّاء أصبح أمرًا لا بد من إيجاد حلًّ له.

وإني أرى وجوب تكرار ذات المشهد عند كل نازلةٍ تنزل بالأمة ويروح فيها الآلاف من أبنائها، أرى أنها نوازل يجب على العاملين من ذوي البصيرة أن يتنبهوا للثغور التي تُشَق على إثرها، وأنّ المسئولية التي كانت موزعة على هؤلاء الآلاف انتقل حِملها إلينا بقضائهم نَحْبَهم، فيجب أن يتضاعف الشعور بالمسئولية والعمل تِباعًا، وألّا نسمح لكفة الأمة أن تختل عند النوازل والمصائب.

لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا، ويُهيأ لهذه الأمة من أمرها رَشَدًا.


مصادر للاستزادة:

١- سلسلة تاريخ الفكر الأوروبي الحديث – الأستاذ أحمد يوسف السيد

https://youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsQMpwdg-LEUnb7c1LDxkQv5

٢- التراث والتنوير في فلسفة ڤولتير – مريم بن عطا الله – بحث ماستر.

٣- رواية هيروشيما – جون هيرسي – ترجمة وتقديم الشيخ عبد الله العجيري.

٤- مقال زلزال لشبونة – المنار

https://www.manar.com/page-46848.html