تشويه الحجاب.. من فرض إلهي إلى موضة!

يمثّل حجاب المرأة المسلمة في الواقع المعاصر حالة من التحدّي للفلسفات المادية والأنماط الفكرية المعادية للفطرة والدين، ومن ثم فإن مساعي كبيرة تبذل لتفريغه من كونه فريضة إلهية، وتطعيمه بالفكر الليبرالي أو النسوي.

ما هو الحجاب؟

بداية لا بدّ من الإشارة إلى أن الحجاب في اللغة یعني: “الحجب”، أو “المنع”، أمّا في معناه من حيث الحكم الشرعي فهو ستر المرأة المسلمة جسدها عن الرجال غیر المحارم، فيكون الفعل نفسه تحجّبًا، أما “الرداء الذي ترتدیه المرأة لتغطّي به جسدھا كاملاً مع وجهها أو من دونه” فهو الحجاب المطلوب.

ثمة ضدٌّ للحجاب، وهو السّفور أي الكشف، وقد عرّفه الفقهاء بأنه: “كشف المرأة لوجھھا”، إلا أن دلالة هذه الكلمة تطوّرت اليوم فباتت تشیر لمعنى آخر، وهو: التبرج الفاحش والاختلاطُ المنفلت من أي ضابط شرعي.

 لعلنا ندرك أن تطور الدلالة في الكلمة يوضّح المراحل التي تدهورت فيها فریضة الحجاب في أذھان المسلمین! فالسفور الذي یعني كشف المرأة لوجھھا مع حفاظھا على باقي جسدھا مستوراً، صار ھیناً أمام مظاھرِ الموضة المختلفة التي باتت تصنّف تحت يافطة الحجاب الیوم.

وفي هذا الإطار فإنه من المھم التأكيد على أنّ إنزال الكلمات منازلھا، وذكرها بمعانیھا الصحیحة، له دور كبیر في انعكاس ما یترتب علیھا من أفعال، فإنّ التي ترتدي الخلیع والضیق الذي یوضح تفاصيل جسدھا ویتنافى مع مواصفات الحجاب الشرعي – حتى إن وضعت غطاءً صغیراً على شعرھا – فلو أنها سُمّیت كما في الحدیث “كاسیة، عاریة” لكان ذلك أصحّ وصفاً وأبلغ أثراً في النفوس.

ومردّ هذا إلى أن المصطلح في الوعي الإسلامي بوابة لتنظیم الفكر، وأداة لتقویمه، وآلة لتحصینه ضد الغزو المقنّع الذي یتخلّل في ثنایا العبارات المجملة للنفاذ إلى ثقافة المجتمع سواءً أكان ذلك في باب العقیدة أو الشریعة أو القیم الأخلاقیة”[1] ومن هنا لا غرابة أن نجد التي تحتشم وترتدي الحجاب الشرعي يطلق عليها وصف “رجعیة” أو “متشددة” وغیر ذلك من الأوصاف، وكلما زاد التكشّف وإبراز المرأة لمفاتنھا ألصِقت بھا أوصاف التحضر والتقدم والمدنیة.

الحجاب

وقفات مع تاریخ الحجاب

بعد نزول الآیات التي فرضت الحجاب على المرأة المسلمة تدریجیًّا، بدأ عھد جدید في لباس المرأة المسلمة أمام الرجال الذین لا یعدّون محارم لھا، ففي عصر النبوة، أي في الجیل الذي نزل فیه الوحي كان تطبیق الشرائع الربانیة أمراً مباشراً وسریعاً، حيث تقول أمنا عائشة رضي ﷲ عنھا: (یرحم ﷲ نسوة المھاجرين، لما أنزل ﷲ: {ولیضربن بخمرھن على جیوبھن} شققن مروطھن فاختمرن بھا). [أخرجه البخاري، برقم:4480[

ثم تتابعت السنون على الأمة الإسلامیة ومرت بھا الأھوال والخطوب الكثیرة عبر1200 عام من عمرھا حتى سقوط الدولة العثمانية آخر دول جامعة للمسلمین عام 1924م، فكانت فريضة الحجاب طوال ھذه القرون عقیدة ثابتة، فالحجاب بشروطه الواضحة فرضٌ على المرأة المسلمة، وأن ما اختلف علیه هو كشف الوجه والكفین والقدمین، فقال بعضھم بجواز كشفھا إذا أمنت الفتنة وقال البعض بوجوب تغطیتھا، أمّا عن حال أغلب المسلمات في البلاد الإسلامیة منذ النبوة ونزول آیات الحجاب وحتى نھایات القرن التاسع عشر فكانت غالبیتھن تغطین جمیع أجسادهن بما فیها الوجه، أي أنھن كُن یرتدین حجاباً یشابِه ما نصطلح على تسمیته الیوم نقاباً، ولم یكن ھناك خلاف ولا شبھة ولا جلبة حول أمر الحجاب! إلا ما ھو معروف ومفھوم في مسألة كشف الوجه والكفین وبعض المسائل المتعلقة بالعجائز والرقيق.

الحجاب في شكله المعاصر

من فريضة ربانية في السابق إلى خيار يمكن للمرأة رفضه أو ارتداءه أو تغيير شكله بناءً على ما  تملیه علیھا تيارات الأفكار والموضة.

ينبغي علینا النظر في طبیعة الفترة التي بدأت فیھا زعزعةُ فریضة الحجاب، وتحدیداً مع أواخر حملة نابلیون على مصر نھایات القرن الثامن عشر، إذ أنتجت تلك الحملة أجیالًا “مُفرنسة” بسبب البعثات الدراسیة إلى فرنسا، ومع نھایات القرن التاسع عشر أخذت دعوات العلمانیة تطلق من أفواه المسلمین “المتفرنسین” وكان أول تلك الدعوات في مسألة المرأة ھي دعوات الشیخ “رفاعة رافع الطھطاوي” الذي كان شیخ البعثة المصریة إلى فرنسا، حيث عاد متأثراً بما رآه في المجتمع الفرنسي، لیثیر قضیة تحریر المرأة في مصر، ثم “مرقُص فھمي” الذي أصدر كتاب “المرأة في الشرق” وتحدث فیه صراحة – من ضمن ما تحدث- عن ضرورة التخلي عن الحجاب الإسلامي وإنهاء ارتدائه، ومن ثم سار العديد من العلماء والمشايخ على خطى “الطھطاوي”.

أمّا “قاسم أمین” تلمیذ “محمد عبده” فھو الاسم الأبرز في قائمة الأسماء التي كان لھا الدور كبیر في زعزعةِ فریضة الحجاب وإثارة قضیة تحررِ المرأة بوجهها المتمرد، من خلال أول كتاب أصدره وھو كتاب “تحریر المرأة” الذي نشره عام 1899 وقال فیه على سبیل المثال “الشریعة لیس فیھا نص یوجب الحجاب على الطریقة المعھودة وإنما ھي عادة عرضت علیھم من مخالطة بعض الأمم؛ فاستحسنوھا، وأخذوا بھا، وبالغوا فیھا، وألبسوھا لباس الدین كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدین[2]

ثم أصدر كتابه “المرأة الجدیدة” عام 1900م و كان أكثر صراحة فیه مما قبله، حيث أراد به الإشارة إلى أن نموذج المرأة الأوروبیة بلباسھا ونظام حیاتھا وأنه ھو التطور والتقدم الذي ینبغي على المرأة المسلمة أن تتبعه، وكان لكتبه صدىً كبير في الشام أیضًا فواجه معارضة شدیدة من الشیوخ والدعاة فيها كما كان الحال داخل مصر وخارجھا.

لن ننسى التوقف عند “سعد زغلول” الذي عیّن رئیسًا لوزراء مصر في عشرینات القرن الماضي فكان المنفذ الأمين لأفكار “قاسم أمین”، فكانت زوجته “صفیة زغلول” من أوائل من نزعن الحجاب وأسفرن عن وجوھھن في مصر، أمّا ضربة البدایة المجتمعیة لتھوین الحجاب في مصر فكانت أثناء استقبال “سعد زغلول” حين عاد من منفاه، إذ نُصب سرادق للنساءِ وآخر للرجالِ فتوجّه “سعد زغلول” نحو صالون النساء وسحب من وجه “ھدى شعراوي” حجابھا فصفقت ھُدى وتبعتھا النساء في خلع الحجاب بعد ذلك.

وفي ذات الوقت في تركیا التي كانت مركز آخر دولة إسلامیة فكان لمصطفى كمال أتاتورك صولات وجولات في إنهاء حضور تعاليم الإسلام بعد إلغاء الخلافة العثمانیة عام 1924م، فكان من ضمن حملته لتغریب تركیا وعلمنتھا، إصدار قانون یمنع ارتداء الحجاب في الأماكن الحكومية، وفي إیران قام “رضى بھلوي” الذي تم تنصیبه عام 1926 بإلغاء الحجاب الشرعي، وقامت زوجته بمبادرة كشف رأسھا في احتفال رسمي.

لقد تتابعت القوانین والدعوات لخلع الحجاب والتشكیك في فرضیته من قبل الحكومات وأصحاب الفكر التغریبي العلماني ورموزه منذ نھایات القرن التاسع عشر واستمرت في القرن العشرین في تونس والجزائر وأفغانستان وألبانیا وروسیا ویوغسلافیا والصومال ومالیزیا وغالب الدول الإسلامیة التي تم استعمارھا.

الحجاب المعاصر

كیف وصل الحجاب إلى ھذه النقطة؟

إن الناظر لحال حجاب المرأة المسلمة الیوم، يظهر له البون الشاسع بین حجاب عدد كبیر من المسلمات وبين الحجاب الشرعي الذي فرضه ﷲ عز وجل، إذ كانت كل المراحل السابقة التي ذكرناھا مباركة ومدعومة من قبل الاستعمار، وحتى بعد خروج المحتل من الدول الإسلامیة فقد خرج بجسده تاركا أفكاره ومدارسه موجودة ومتحركة عبر الحكومات التي جاءت بعده، وفي الفكر الذي زرعه في المجتمع، ثم كان الدور الآخر الكبیر لوسائل الإعلام المرئیة التي تصور المرأة الناجحة في حیاتھا على أنھا ھي التي تخلع حجابھا وتضیق ملابسھا وتقصرها، ومع تكثیف الحملة الإعلامیة ومناھج التربیة والتعلیم البعیدة عن المنھج الإسلامي، والمتوافقة مع نظام السوق الرأسمالي الذي یفرض سلطته على الفرد -الھش نفسیا- لیجعل اللحاق بالموضة -أیاً كان شكلھا وتعارضھا- مع شرع ﷲ أمراً إلزامیاً.

ومع ظھور وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت التواصل وأسهمت في تصاعد إفراز الأفكار العلمانیة والنسویة، وصلنا إلى نتیجة أن الحجاب تحول من كونه فرضاً ثابتاً في عقیدة المسلمة وھویتھا إلى قطعة قماش، تضعھا على رأسھا إن شاءت وتنزعھا متى أرادت.

وبات مسألة من السھل إطلاقُ الشبھات حول الحجاب، مثل القول بأن النقاب لیس من الإسلام، وإلا فإنّ تزعزع فریضة الحجاب في القلوب لم یكن إلا مع مطلع القرن الماضي، وما قبله من التاريخ فقد كان لزامًا على المرأة المسلمة أن تلتزم فيه بحجابها؛ لأنه أمر ربھا أولاً، ولتحقق مرضاته بأداء ما افترضها عليها آخرًا.

[1] د. سامي عامري، العالمانیة طاعون العصر، ص: 14

[2] قاسم أمين، تحرير المرأة، ص: 92.