تجربة مع الموت: وصايا وعبر (1)
إنها الساعة الثانية ليلاً (1)، أنا الآن في مشفى مدينة كلّس التركيّة، والناس من حولي نائمون، هناك هدوء تام وصمت مطبق، لا تسمعُ سوى أصوات الأجهزة الطبية التي تتابع حالة المرضى، في خضمّ هذه الحالة، كنتُ أشعر بقرب الموت مني، فأردت أن أكتب هذه الوصية لي ولكل من يصاب بكورونا.
إن خبرتنا بكورونا قليلة وغير ناضجة، كما أن تعاملنا معها يغلب عليه العاطفة والسرعة في تعاطي العلاجات السريعة والشعبية، والاكتفاء بهذا خطير، لأنه يؤدي إلى تفاقم المرض، ولا يوقفُ تمكّنه من الرئتين والدم، بل قد لا يشعر الإنسان بتدهور حالته إلا بعد فوات الأوان، وحينها يصبحُ العلاج صعبًا ومتعبًا (2).
لقد شاع لدى الكثير من الناس الاستهتار بالمرض، وعدم المبالاة به بسبب كثرة حالات الشفاء، والتغاضي عن الحالات الكثيرة جدًّا للوفيات باعتبار أن أغلبها لكبار السن، وهذا ليس صحيحًا فهناك حالات وفيات كثيرة لمن هم دون الخمسين، كما تفيد تقارير المشافي بأن أكثر حالات الوفاة أو تأزم المرض كان بسبب التأخر للمجيء للمشفى وأخذ العلاجات اللازمة، وهذا ما يجب أن يتلافاه الناس
كورونا والتجربة المريرة
أُصبتُ بكورونا في 26 /11/2020 ومع ذلك لم أهتم كثيرا فقد بدأت باتباع وصفات الأصدقاء: عكبر النحل، الزنجبيل، الفوارات، السموط الهندي وغيرها، ولكن المرض كان يتفاقم يوميًّا، ويزداد ضيق النَّفَس وتزداد الآلام في صدري وخاصرتي، فأُخِذتُ إلى المشفى، وكنت أشعر بوضعي الصحي يتدهور وكأنني أتجه باتجاه فقدان الوعي، ولمَّا اطَّلع الدكتور على نتائج التحليل والتصوير، قال: لقد تضررت الرئة بشكل شديد، وأصابها التهاب قويّ، كما أن الدم تعرّض لالتهابات شديدة، قال ذلك وهو يقلّب النظر بيني وبين ابني، حينها قلت له وأنا أستشعر الحاجة لله: (على الله).
حصلت معي مضاعفات شديدة، وازدادت حالتي سوءًا، وحين جاء الأطباء تفاجؤوا بسرعة نبض القلب وشدة الالتهابات في الرئتين والدم، وأخذوا يتهامسون وينظر بعضهم إلى بعض وإليّ، وبقيتُ مستقرًّا في ممرّ المشفى -لشدّة ارتفاع عدد المرضى بالفايروس- حتى تهيّأ لي مكانٌ أُدخِلتُ إليه لاحقًا.
الموت وسكراته، خواطر وعِبَر
أعود الآن إلى تلك اللحظات والخواطر التي كانت تنتابني أثناء الانتظار، فقد كنت أتوقّع مغادرة الحياة بين لحظة وأخرى، وأتوقع فقداني للوعي بين لحظة وأخرى، ما الذي عليّ فعله؟ كيف أودّع الحياة وأغادرها؟
بدأت بإملاء وصيتي لولدي(3)، وسَبَّبَ هذا خوفًا عليّ عند العائلة والأولاد، لكني هدّأتهم بأن قلت لهم: إنّ الوصية سنة، ولا بد منها سواء كان الإنسان سيعيش أم سيموت، شعرت ببعض الراحة حين انتهيت من الوصايا التي كنت أسابق فيها الوقت، فما كنت أدري اللحظة التي أتوقف فيها عن القدرة على الكلام، وأفقد الوعي، حيث كنت أشعر في كل لحظة أشعر بتدهور زائد في جسمي، وازديادٍ لضربات القلب، وضيق النفس وآلام شديدة في جوانبي.
بدأت أفكّر بسكرات الموت، ترى كيف ستكون؟ كيف ستخرج الروح؟ هل سيُخفِّف الله عز وجل عني آلام الموت؟ أم سيشدِّد عليَّ، وكل هذا واردٌ بالنسبة للمؤمن، قد يُشدَّد عليه الموت لتكفير سيئاته، وقد يُخفَّف عنه مكافأة له على بعض أعماله الخيّرة.
وفجأة يرد على ذاكرتي قول الله عز جل: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [ سورة الأحزاب: 21 ] . وكان نزول هذه الآية على قلبي بردًا وسلامًا، أنساني كل ما يخطر في البال من آلام الموت، فقد أصبحت أتذكر حبيبنا وسيدنا وقرة أعيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقاسي من آلام الموت، وسكرات الموت، ويقول: ألا إنّ للموت لسكرات (4)، صلّى الله عليه وسلم، وقيل له، إنك يا رسول الله تُوعَك كما يوعك رجلان منا؟ قال أجل. قيل: ذلك أنّ لك أجران، قال: نعم (5)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يُشَّدد عليه الموت كما يُشَّدد على رجلين من أمته، لأن له أجر النبوة، وأجر الإيمان، ومع أنه سيد ولد آدم، وحبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، إلا أنه لمْ ينجُ من شدة الموت وسكراته، فكان هذا الخاطر يجعلني أستهين بالموت، بل وأستلذُّ به، فمن أنا بجوار حبيب قلوبنا، ونور أبصارنا، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخذت هذه الآية تتكرّر على مسمعي وكأنها تنزل لأول مرة: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) .
صرت أتذكر أيضًا سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وسيدنا نوح، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، عليهم السلام، ثم امتدَّ شريط الذكريات لأتذكر سيدنا أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسائر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كل هؤلاء العظماء تذوقوا آلام الموت، وتجرعوا سكراته، وهم خِيرةُ الله من خلقه، فمن أنا بجانب هؤلاء العظماء، حتى أخاف من سكرات الموت، أو أطلب ما لا يحق وما لا ينبغي لي.
ومن الخواطر التي غمرتني وخففتْ عني قول سيدنا بلال رضي الله : (( واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه )) (6) طبعا إخواني لست في موقع بلال رضي الله عنه -حاشا لله- لكن التَشبُّه بالكبار في المواقف الصعبة مطلوب، فأنا تشبَّهتُ ببلال في هذا الموقف العصيب بالنسبة لي .
أجل فإن من أنا ذاهبٌ ومقبل عليهم كرام، كرام، كبار عظماء. سأرى بعد الموت إذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وصحبَه والأنبياء َوالأولياءَ والصالحين، هذا كان يملأ قلبي ثلجًا وسرورًا، ويجعلني أنسى الموت والفراق والأهل والأحبة، وأنني سأرى والدتي وأختي اللتان سبقتاني منذ سنوات إلى لقاء الله عز وجل.
الأمر الآخر الذي خفّف عني من الخوف من الموت وسكراته هو موضوع العقبة التي لا بد منها، فالموت عقبة أمام كل مؤمن، ولا بد أن يمرَّ بهذه العقبة، كأس لا بد يشربها المؤمن ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾، فحين يموت الإنسان المؤمن يكون قد تجاوز هذه العقبة، وشربَ هذه الكأس التي لا بد منها، ويكون قد ارتاح من عقبة تنتظره في طريقه الذي لا مفر منه ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [ الأعراف: 34 ] .
ولذلك سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما رأى النبيَّ صلى الله عليه قد لحق بالرفيق الأعلى قال: أما الميتة التي كتبها الله عز وجل عليك فقد مُتّها ولا يجمع الله عليه موتتين أبدًا (7)، فقد أدرك سيدنا أبو بكر أن هذه الميتة موعد مع كل إنسان، سواء كان نبيًّا أو مؤمنًا أو غيره، ومن نِعَم الله عز وجل على المؤمن أن يتجاوز هذه العقبة بخير وبحسنى وخاتمة طيبة على الإيمان بالله عز وجل (8)
من الأمور التي كانت تثلج صدري وتخفف عني؛ هو أن هذا المرض الكورونا يشبه الطاعون الذي جعله الله عز وجل شهادة لكل مؤمن، فقلتُ لعل الله عز وجل يريد أن يتخذَ ويصطفيَ من عباده المؤمنين شهداء بهذا المرض؛ لكثرة ما لاقت هذه الأمة من محن وشدائد؛ فهو بابٌ من أبواب الشهادة، وقد رأينا كيف قضى بهذا المرض عددٌ كبير من أهل العلم والصلاح والفلاح والجهاد، فرجوت الله عز وجل إن كُتب لي الأجلُ بهذا المرض أن يجعلَه شهادة لي، وأن يكون سببًا في نيلي الشهادة التي لا يرزقها الله عز وجل إلا لمن يصطفي من عباده.
الهوامش:
- هذا المقال الأول من سلسلة مقالات كتبتها أثناء مرضي بكورونا، أثناء وجودي في مشفى مدينة كلّس- تركيا، وذلك تعبيرًا عن حالة شعورية عشتها أثناء فترة المرض في المشفى لمدة أسبوع، وهي تجربة شخصية وعظية مغموسة بأعماق من التجربة المباشرة، تدخل في باب الذكرى ﴿فَذَكِّرْ إِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ﴾
- أنصح كل إنسان يصاب بكورونا وتبدأ الأعراض جدية عليه كأعراض الكريب أن يسارع في الذهاب إلى المشفى، وتعاطي الأدوية الرسمية الحكومية، وبعدها لا مانع أن يأخذ أي أدوية عربية أو اجتماعية أخرى متداولة مثل: عكبر العسل، والزنجبيل، والسموط الهندي، والفوارات المختلفة، فهذه كلها علاجات مفيدة، ولكنها ثانوية وتأتي بعد العلاجات الطبية النظامية والرسمية. ولا أنصح بالإهمال في هذا الأمر فقد يؤدي إلى عواقب خطيرة.
- دائمًا كانت وصيتي بحمد الله عز وجل مكتوبة، إلا أنّني لم أقم بتجديدها، والمفروض أن يتم تجديد الوصية دائما بحسب معطيات الحياة الجديدة وتطوراتها، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا ينام الإنسان إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه [أخرجه البخاري رقم الحديث: 2738]، فطلبتُ التلفون من ابني وبدأت بإرسال وصايا: لزوجتي، ولأولادي، ولإخوتي، ثم كانت وصية مهمة لإخواني في سوريّة.
- ينظر: المعجم الكبير للطبراني (23/ 31) 78 .
- صحيح البخاري رقم الحديث: 5648 .
- يُنظر: الشفا، عياض بن موسى اليحصبي (2/ 19) .
- صحيح البخاري، برقم:1241.
- تذكرت ههنا وفاة والد زوجتي الشيخ عبد الرحمن بكّور الذي توفي في مرضه بكورونا قبل مرضي بأيام قليلة، ووجدتني أقول لنفسي: هنيئًا لعمي الشيخ عبد الرحمن بكّور، لقد نجّاه الله من هذه الموتة.