باوهاوس والنمط العالمي الموحد

image_print

عند افتتاح مدرسة باوهاوس للفنون والهندسة المعمارية في ألمانيا، يقول المدير المعماري والتر غروبيوس في ورد “بيان الفنان” في أبريل 1919: ” دعونا نناضل وننشئ المبنى الجديد للمستقبل الذي سيوحد كل تخصص، والهندسة المعمارية والنحت والرسم، والتي سوف ترتفع في يوم من الأيام من السماء من أيدي الملايين من الحرفيين كرمز واضح لعقيدة جديدة قادمة.” (1)

أشهر مقولة تم تداولها في هذه المدرسة هي للمعماري سوليفان يقول فيها: (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function)، مما يعني أن أهم معيار لنجاح التصميم هو الكفاءة القصوى، يرد أستاذ آخر في المدرسة، المعماري مارسيل بروير ويقول (… ولكن ليس دائما).(2) اعتبر العديد من الفنانين أن باوهاوس ليست مجرد مدرسة بل هي أيديولوجيا وتحول وقناعة جديدة في الفكر الفني والمعماري.(3)

تدّعي مدرسة باوهاوس بأنها أول من ابتكر فكرة البناء مسبق الصنع، وذلك من أجل تشكيل لغة معمارية عالمية موحدة، والتأسيس لعمل معماري إنساني جماعي يتميز بالعطاء المتجدد.(4)

كتاب Neufert من إنتاج مدرسة باوهاوس، درس هذا الكتاب تحركات وسكنات الانسان وكل أعماله ووظائفه اليومية, مع حساب حجم المساحة المطلوبة لفعل كل وظيفة لتحديد الكفاءة القصوى للتصميم

أصبحت عبارة “الشكل (على الإطلاق) يتبع الوظيفة” صرخة معركة للمهندسين المعماريين الحداثيين بعد الثلاثينيات. حيث إنه تم أخذ العقيدة على أنها تشير إلى أن العناصر الجمالية، والتي يسميها المهندسون المعماريون “زخرفة”، كانت غير ضرورية في المباني الحديثة. مع أن سوليفان لم يفكّر ولم يصمّم على هذا المنوال الصارم المتشدد في ذروة حياته المهنية.(5)

العمارة الإسلامية واستيراد الأفكار الجديدة
ينبغي أن نعرف أنه من الجيد استعارة وتطبيق بعض القوانين والمبادىء التقنية المفيدة من مختلف بقاع الأرض عند التصميم التقني للآلات والمباني، خاصة فيما يتعلق بالكفاءة القصوى للتصميم، مما يساعد الانسان على التحكم ببيئته بطريقة حضارية ومستدامة. لكن قبل أن نأخذ تلك القوانين كحقيقة قاطعة، من الجيد أن نعرف تبعات هذه القوانين بكل أبعادها، ونعرف لأي مدى يكون حدود استعمال تلك القوانين، حتى لا تنتج عنها تبعات تتعارض مع نمط حياتنا وأفكارنا وما نؤمن به.

النمط العالمي الموحد (International Style) وعلاقته بالبساطة المفرطة (مينيماليزم (Minimalism
اشتهرت حركة البساطة المفرطة في التصميم من قبل المعماري لودفيغ مايس فان دير روه Mies Van Der Rohe بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان آخر مديري باوهاوس.

انتشرت الباوهاوسية واعتنقت فكرة الأقل هو الأكثر(Less is More) . نظرًا لتأثرها بشدة بالتصميم الياباني التقليدي وفلسفة الزن Zen، ومن هنا فإن التبسيطية أو الميناليزم Minimalism تبشر بتقليل العناصر في التصميم من خلال التجريد المستمر، فيتم الاهتمام بالأغراض المرئية والوظيفية من خلال التقلّص باستمرار من العناصر الأخرى المتعلقة بالنمط التراثي والجمالي والثقافي، ويروّجون أن بساطتها تعمل بالكفاءة. (6)

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة

 

منزل محاكي للأصل لأساتذة مدرسة باوهاوس مبني على مبادىء البساطة المفرطة

 

منزل حداثي مصمم على مبدأ البساطة المفرطة وفلسفة الزن

وبالرغم من أن ليست كل التصاميم على هذا النحو المتطرف من البساطة والتجريد، حيث تتنوع التصاميم أكثر بحسب استخدام مواد البناء وموقعه ضمن أشكال مختلفة من أجل تحقيق قيمة جمالية متناسقة بين المبنى والبيئة المحيطة، إلا أن كل هذه الفلسفة والقيم الجمالية مستوحاة من فلسفة الزن التي تركز على استعمال العناصر الخمسة للطبيعة، حيث لا يأخذ المهندسون المعماريون في الاعتبار الصفات المادية للمبنى فقط، بل إنهم يعتبرون البعد الروحي وغير المرئي، من خلال الاستماع إلى الشكل والاهتمام بالتفاصيل، والأشخاص، والفضاء، والطبيعة، والمواد.(7)

لا يعني انتقاد منهج التجريد والبساطة المفرطة التشجيع على البذخ والإسراف، وإنما محاولة فهم تبعيات هذا المنهج عند اتباعه حرفيا.

أما مفهوم البساطة، فانه ليس محتكرا بحركة المينيماليزم، وحتى نفهم أيديولوجيا معينة، فإنه يجب تخيل تبعاته الخالصة عند تطبيقه بحذافيره وتعاليمه الحرفية وما ينتج عنها، وهنا فإننا لسنا بحاجة لمفاهيم هجينة تعلمنا كيف نبني مساجدنا ومنازلنا، خاصة عندما تكون مبنية على عقائد وأيديولوجيات تعارض نمط حياتنا.

كيف وصلت باوهاوس لهذا الحد من التجريد؟
لفهم هذه النتائج العجيبة، نحتاج دراسة تاريخ العمارة في الغرب والسياق الذي كانوا فيه. الحداثة كمصطلح واسع يصف الحركة الفلسفية التي تلت التغيرات العظيمة للحضارة الغربية (مثل الثورة الصناعية) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد كان من نتائج الثورة الصناعية مفهوم (الوظيفية Functionalism) وهو السماح لوظائف المبنى بالتحكم، وبالتالي تشكيل الجماليات والأسلوب المعتمَد. (8)

اتخذ المصممون الوظيفيون من الوظيفة إلهًا خاصة الذين عاشوا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث لم يشيروا إلى الله خالق المواد وموجدها بل إلى تظللوا في مطالب “روح العصر- زايتجيست Zeitgeist” أو “العصر الحديث” أو “عصر الآلة”.(9)

كما أدى ذلك الى نتائج عجيبة في فهم الجانب الميتافيزيقي للإنسان، وحاولوا فهمه من خلال تجريد جسم الإنسان إلى أشكال هندسية مجردة للتجربة والعبث في فهم الإبداع والميتافيزيقيا في طبيعة الإنسان وعلاقته ببيئته.

طلاب مدرسة باوهاوس في أزياء تنكرية للمسرح الميتافيزيقي

احتلت الحفلات المسرحية منذ البداية مكانة بارزة في التقويم السنوي للمدرسة، والتي كانت أشبه بطقوس ميتافيزيقية من رقص وتصوير وعبث. (10) فنجد في الصور السابقة مثالًا من السبعينيات، حيث استخدم المصممون في حركة باوهاوس الملابس والأزياء التي قمعت العنصر البشري من أجل تحقيق مفهوم الإبداع.

هل اقتصر منهج الباوهاوس على التصميم المعماري فحسب؟
يقول مصمم هذين الكرسيين إنه أراد إعادة فهم ما هو الجدوى من الكرسي وأراد التخلص من كل شي لا وظيفة مباشرة له، فتخلص من زيادات كل ذرة ونقطة وانحناءة للمادة، ولذا ترى أن لا جيوب له أو فتحات إضافية أو أي شيء يدل على أنه من الممكن التغير أو التأقلم.

من الطبيعي أن تكون الخطوة التالية عدم وجود الكرسي، فتخيل أنك جالس وهذا كاف لجعلك تطوف في الهواء. وقد قالها المصمم بروير في تعريفه، حيث افترض بروير أن الكراسي ستصبح في نهاية المطاف رجعية، وستستبدل بأعمدة داعمة أو هواء. (11)

من الجيد استخدام المواد بالسبل الأمثل وعدم إهدارها، لكن، لمَ تجريد الكرسي لهذه الدرجة بحيث لا يمكن استعماله إلا لتحدي الجاذبية؟ بل حتى الجاذبية حاولوا التمرد عليها.

كراسي صممت على طراز باوهاوس

دخلت مبادئ باوهاوس في تصميمات شركات الأثاث الكبرى مثل أيكيا، بسبب تركيزها على الجانب العملي الوظيفي. مع أن التصميم العملي ذي الكفاءة يعتبر شيئًا مهما، لكن ليس لدرجة أن تصبح أعمالنا اليومية آلية لا روح فيها. مثال ذلك المطبخ الذي تحول الى مصنع لا يدخله إلا الشخص المسؤول. يتم تقديم الطعام من شباك يصل بين المطبخ مع باقي المرافق، فأصبح مكانًا لا معنى أو قيمة له أو للوسيلة (عملية الطبخ) وإنما للنتيجة فقط (الطعام) فهي المهمة في المنظور المادي الآلي.

مطابخ صممت على طراز باوهاوس

هل إنكار منهج باوهاوس وحركة المينيماليزم رجعيّة؟
عندما ننكر فلسفة المينيماليزم فهذا لا يعني مواجهة فكرة البساطة ورفضها، ومثل ذلك فإن رفض فلسفة مدرسة باوهاوس فهذا لا يعني رفض الكفاءة والوظيفية، لكننا نحاول فهم هذه الفلسفات وتبعاتها الخالصة عند تطبيقها، ونقارن بين نتائجها وبين حاجاتنا وندرس إن كانت تتوافق أم لا مع مبادئ ديننا وهويتنا الحضارية، وفي هذا الحال فإن استخدامنا لهذا الفلسفات يجب أن يكون مدروسًا ومحدودًا في نطاق معين، حتى يعود لنا بالفائدة دون المساس بمبادئنا ونمط حياتنا.

يجب أن ندرك أن الوظيفة مهمة في التصميم لكن يوجد حاجات أخرى للإنسان لا يمكن أن تفهمها الآلة، وهنا ندرك أن القوانين التقنية لا يمكن تطبيقها على كل الحاجات الإنسانية، خاصة غير المادية منها، والتي تشمل الإحساس بالجمال والشعور بالانتماء. وبنفس الوقت من الأفضل عدم اللجوء لفلسفات ميتافيزيقية هجينة ومحاولة أسلمتها لإدراك البعد غير المادي في التصميم.

الجري وراء تحديد الشكل من خلال الوظيفة فحسب يؤدي بالتأكيد الى مسح هويات البشر المختلفة وثقافاتهم، فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى شعوبًا وقبائل لنتعارف، والاختلاف هنا في البيئة والثقافة الشعبية شيء محمود وموجود لحكمة. أما التركيز على الوظيفة الآلية المحضة من كل شكل وتصميم، فإن ذلك بالنسبة للمصممين المناهضين لباوهاوس يؤدّي إلى مغالطة أن الوظيفة تحررك من الشكل، والتركيز الوحيد على الوظيفة سوف يستدعي لغة نموذج عالمية متأصلة. (12)


المراجع:
(1) https://eferrit.com/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1-%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%B3/
(2) https://www.greelane.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9/marcel-breuer-bauhaus-architect-and-designer-177371/
(3) https://www.arab48.com/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-48/%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/2019/04/12/%D8%AC%D9%88%D8%AC%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%80-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A8%D8%A8%D8%B3%D8%B7%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84%D9%8A#:~:text=%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D8%AF%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86%20%D8%A3%D9%86، %22%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D8%B3%22%20%D8%AD%D8%AA%D9%89%20%D8%B9%D8%A7%D9%85%201927
(4) https://alarab.co.uk/%D9%85%D8%A6%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8
(5) https://e3arabi.com/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%83%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D8%A9/
(6) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/
(7) https://en.wikipedia.org/wiki/Minimalism#Influences_from_Japanese_tradition
(8) The Function Utopia – Why ‘form follows function’ is misleading (oysteinhusby.com)
(9) Form Follows WHAT? History and critique of the form follows function formula. By Jan MICHL، Oslo، Norway
(10) http://people.brunel.ac.uk/dap/BauhausConstructivism.pdf
(11)The Bauhaus، 1919–1933 | Essay | The Metropolitan Museum of Art | Heilbrunn Timeline of Art History (metmuseum.org)
(12) https://www.oysteinhusby.com/function-utopia-form-follows-function/

مصادر الصور:
https://www.archdaily.com/881889/neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm/59f672c2b22e3853b8000159-neufert-the-exceptional-pursuit-of-the-norm-image?next_project=no
https://www.dezeen.com/2018/07/19/bloco-arquitetos-white-cora-house-sloped-site-brasilia/
https://miesarch.com/work/580
https://www.archdaily.com/903195/project-nymph-zen-architects
https://www.penccil.com/gallery.php?show=11064
https://www.pinterest.pt/pin/406520303840893688/
https://www.midcenturyswag.co.nz/products/marcel-breuer-b33-chairs
https://www.bauhauskooperation.com/knowledge/the-bauhaus/works/joinery/slatted-chair-ti-1a/
http://collections.vam.ac.uk/item/O58657/armchair-breuer-marcel-lajos/
https://www.apartmenttherapy.com/brief-history-of-kitchen-design-from-the-1930s-to-1940s-247462
http://eldotdesigns.com/baukitchen/
https://www.pinterest.com/pin/752945631424794306/

 

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد