النسوية بين الحقوق والقوانين والواقع

كان لانطلاق فكرة (النسوية) لتخليص المرأة من الاستعباد المجحف كبيعها واستغلالها بعضٌ من الحق في بادئ الأمر، ولكن كأي أفكار وحريات لا تحدّها حدود لا بُدّ أن يشوبها التطرف والغموض، فكان طلب النسويات في الموجة الأولى للمساواة في حق التصويت مغلفًا بطابع من العنصرية، حيث احتجت النسوية إليزابيث ستانتون على إعطاء حق التصويت للرجل الأسود قبل أن يعطى للمرأة بيضاء البشرة، وأعلنت ريبيكا فيلتون إحدى المؤسسات ذلك صراحة عندما قالت: “لايمكنني تحمل رؤية رجل أسود يصوت لحقوقي”.

الجانب المظلم من النسوية

كان ما تقدّم عبارة عن موجة أولى من النسوية المتلفّحة بالعنصرية ضد عرق بعينه، أما الموجة الثانية فقد ركزت على أن تشمل النساء من الأعراق الأخرى والديانات المختلفة وقد حاولت استبعاد الأمهات من نطاقها، حيث اعتبرت سيمون دو بوفوار إحدى أبرز المفكرات النسويات الأكثر تأثيراً في عصرها، أنّ المرأة التي تنجب طفلاً مضطهدةٌ لنفسها.

لعل أكثر ما ميّز الموجتين الثانية والثالثة (التي كانت حركة فردية مُركزة على حقوق المتحولات جنسياً)، هو محاولة تفسير اختلاف الأنثى بطريقة عشوائية، فأقرت سيمون دوبوفوار في كتابها بوجود الاختلافات بين الجنسين الفيزيولوجية والعاطفية والبيولوجية، ولكنها ادعت أنه ليس سببًا كافيًا لتعامَل المرأة بشكل مختلف، وقد كانت منطلقةً من اعتقادها بأن المرأة يمكن أن تختار جنسها بعد مولدها، وبسبب ضعف هذا المفهوم حاولت نسويات الموجة الثالثة تعزيزه بافتراض أن المجتمع هو من يجعل المرأة امرأة، وذلك بوضعها في قالب معين، مما جعل المؤسِسة مونيك ويتتينغ تقول أن المرأة ستعيش باستقلالية إذا كانت كالرجل.

سيمون دو بوفوار من رواد النسوية

سيمون دو بوفوار

ومنذ تلك اللحظات بدأ فكر النسوية بالانحراف عن مساره أكثر وأكثر وهاجمت النسويات بعضهن بعضًا لعدم المنطقية في كثير من أفكارهن، مما دفع فيرجينا وولف (كاتبة انكليزية، معاصرة ومفكرة نسوية) لتقول: “لماذا لا يجب أن نصبح نسويات؟ النسوية مطلوبة عندما لا تستطيع المرأة أن تصنع حياة لنفسها، أما الآن مع وجود الحقوق لم يعد لكلمة النسوية أيّ معنى”

وعلى الصعيد العربي يظهر تناقض هدى الشعراوي رائدة الحركة النسوية عندما كانت أشد المحاربين لزواج ابنها من المطربة فاطمة بسبب الفروقات الاجتماعية واستخدمت نفوذها لتهديدها ومحاولة التأثير سلبا على قضية إثبات نسب حفيدتها لعائلة الشعراوي.

الموجة الرابعة ومشكلة في القياس

   من صحيفة Prospect

كتبت شيريل ساندبيرغ المديرة التنفيذية لشركة فيسبوك في كتابها الأكثر مبيعاً Lean In: “اعتقدت بالمجمل أن النساء في قرون الستينات والسبعينات قد قاموا بالعمل الأصعب في تحقيق حقوق المرأة لنساء جيلي، اعتقدنا أنا وصديقاتي فعلا بل ربما بسذاجة أننا لم نعد نحتاج لحركات النسوية بعد الآن”.

ما زال النقاش في قضايا المرأة مستمراً وقد اضطرت المرأة في القرن الواحد والعشرين من تحويل التركيز على تحقيق المساواة القانونية إلى موجة من محاربة التمييز ضد النساء وتحقيق المساواة المجتمعية، والذي يعد أمراً صعباً، فمع 40 سنة من النضال مازالت المرأة في كثير من الدول الغربية لا تحصّل نفس الأجر ولا حتى نفس فرص العمل التي يحصلها الرجال، وليست هذه المشكلة فقط، فثلث النساء الأوروبيات ما زلن يتعرّضن للعنف المنزلي والجنسي، فضلا عن الضغط الساحق الممارَس على المرأة للالتزام بمعايير الجمال التي تحددها الشركات والإعلام والتي كتبت عنها ناتاشا وولتر “أن كثيرًا من الفتيات والنساء الصغيرات من الجيل الجديد يرين أن المساواة في القوانين لم تترجم إلى مساواة على أرض الواقع”

تعتقد غالبية النساء أن النسوية كانت لفئة معينة كما كتبت ميكي كندال في التايمز: “النسويات ركزن على المشاركة في المناصب وتجاهلن المشاكل الحقيقية لغالبية النساء”، وقد ذكر مارك مانسون مؤلف وصاحب الكتب الأكثر مبيعا في نيويورك تايمز: “كان لانطلاق الحركة النسوية معنىً، والمساواة لايجب أن تكون محل نقاش للجميع، أما النسوية كجمعية أصبحت مؤسسة رجعيّة في كثير من الحالات”، وأكمل في مقاله: “في الموجة الرابعة أصبحت الأمور أكثر تعقيداً، فطلب المساواة في القوانين والعمل كان منطقياً أما المساواة المجتمعية في الأفكار والمعتقدات فإنه أمر معقد وصعب، فهناك مشكلة في القياس لدى فكر النسويات، ولنضرب مثلاً إذا قامت شركة بطرد ثلاث موظفين اثنتان منهم من النساء، فكيف سيحددون السبب فهناك الكثير من الأسباب وكيف سيعرفون ما فكّر به صاحب العمل هل سيعتبرونها مساواة أم عنصرية جندرية؟ يجب الآن على المرأة التوقف عن إطلاق الحملات هنا وهناك والاحتجاج على مواقع التواصل الاجتماعي، إذا أردت فرصا للنساء أكثر في العمل أسسي عملا لك وللنساء”

لنذكر في هذا الإطار دراسة قامت بها جامعة أوهايو لمحاولة فهم عدم وجود كثير من النساء في مواد STEM (العلوم والهندسة والرياضيات) حيث سُئِل ما يقارب 2.700 طالب وطالبة، على أي أساس يختارون المهن، فكان جواب معظم الرجال أنهم يختارون المهن ذات الرواتب العالية، أما النساء فتميل لما يناسبهن أكثر مع تفضيل مساعدة الآخرين، وللمفارقة أيضا فهناك وظائف يكاد وجود الرجال فيها معدوما، فمهما حاولوا التغيير فإنه لا يمكن أن يغيروا الطبيعة التي خلقت وجبلت عليها النساء والرجال.

المنسيون والفئات المهمّشة

ذاك الصوت الضعيف الذي يبحث عن مكانه في قافلة الأصوات المرتفعة والنقاشات المتضاربة، فأعداد المتعرضين للعنف من الشريك مازالت في ارتفاع لتشير إحصائيات في الولايات المتحدة عن تعرض 10 ملايين شخص من الرجال والنساء خلال سنة للاعتداء الجسدي من قبل الشريك، أما أوروبا فقد سجلت أعلى الأرقام لتصل في انكلترا إلى 280 امرأة معنفة مقابل 22 رجل معنف لكل 100 ألف من السكان، و وصلت الأعداد الذروة خلال جائحة كورونا في أغلب دول العالم لتكون النسبة الأكبر من النساء والأطفال، فباتت ملاجئ النساء في ألمانيا مثلا تشتكي من عدم وجود أماكن تكفي للأعداد المتزايدة.

أما الفتيات اليافعات -الذي ضجّ العالم مستنكراً زواجهنّ ليُسنّ قوانين مختلفة لمنع الزواج قبل سن الثامنة عشر في دول عدة- هن أنفسهن الفتيات اللاتي يستخدمن موانع الحمل بنسبة 83% بين عمر15 و19 في الولايات المتحدة مثلًا، وهنّ الفتيات اللواتي اضطررن للعمل بالبغاء –إذ إنّ قوانين الدول الأوروبية التي تسمح بممارسة هذه المهنة- فلوبيّاتها والمُتربّحون منها يجدون في هؤلاء الفتيات والنساء الضعاف والفقيرات صيداً ثميناً، وكانت الأسباب أحياناً أنها مجرد انسياق مع (موضة) منتشرة، مثلما نقلت 24France بالإنكليزية عندما قامت الشرطة الفرنسية بتفكيك شبكة دعارة أغلبها من اليافعات، وذُكر أنه بين 6000 إلى 10000مراهقة تمارس هذا العمل في أنحاء البلاد.

ومشكلة العائلة أحادية المعيل وبالأخص الأم المعيلة التي لم يستطيعوا حلّها إلى الآن ومنها دول غنية مثل الولايات المتحدة وألمانيا، فهم فئة مهددة بالفقر ومنهم من هم تحت خط الفقر بحسب الدراسات، والأسباب تعود غالبا لقلة فرص العمل وعدم المساواة في الأجور ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت من النساء غامقات البشرة أو ممن ترتدي الحجاب، فضلا عن حق الرعاية للأم لمدة معينة، وفي محاولة منهم لصنع التوازن بدأ فرض قانون يشمل حق الرعاية للأب حتى تحصل المرأة على فرص أكثر في العمل، إلا أنه لم يتغير الكثير.

يُنسى، يُباع، يُؤجّل، الأطفال المُتخلًّى عنهم والظلال الأخرى للحرية

هذا هو عنوان بحث لجامعة بوخوم شرح مساوئ الحرية على الأطفال، وتحدث تقرير لقناة SPIEGEL عن فاجعة تخلّي الأهل وأكثرهم من الأمهات المعيلات لوحدهن عن أطفالهم بعد انهيار جدار برلين، فقد تم التخلّي تقديريا عن عشرات آلاف الأطفال وأكثر، والمؤسف أن أكثر الأسباب كانت للبحث عن الحرية والحظ في مكان آخر كما ذُكر، ولا يوجد أرقام محددة عن عدد الأطفال المُتخلّى عنهم child abandonment في العالم، إلا أن دراسة أجريت في جامعة نونتغهام لاحظت أن الأغلبية منهم في أوروبا الوسطى والشرقية.

أما بيع الأطفال، فهي أفظع الجرائم، والحديث هنا ليس عن بيعهم من قبل مافيات في السوق السوداء المنتشرة في الصين، بل عن بيعهم من قبل أهلهم، فهذه ظاهرة متصاعدة في دول مثل بلجيكا وبلغاريا، حيث تقوم الأم ببيع طفلها وهو ما يزال جنينا في رحمها حتى تلد فتعطيه للعائلة الجديدة إما لعدم الرغبة به وإما بسبب الفقر.

وما هذا الذي ذُكر إلا غيض من فيض، فمن ينظر لواقعهم عن قرب يجد مشكلات مجتمعية واجتماعية شتى والتضارب في معالجتها.

ماذا فعلت القوانين الوضعية؟

ربما حقّقت بعض القوانين بعضاً من المساواة إلا أن بعضها زاد الأمر سوءاً، فالقوانين ضرورية ورادعة والرقابة مهمة، وهذا ما يدفع كثيرا من الدول لمحاولة تغطية أكبر مساحة ممكنة بالكاميرات ولكن ماذا إن اختفى كل هذا؟ ولم يكن هناك رادع أخلاقي واستشعار لرقابة الله، أو كانت حرية الإنسان بلا نهاية؟

سنجد الجواب فيما يحدث في الولايات المتحدة وبعض الدول، فمع كل انقطاع للتيار الكهربائي ترتفع معدلات الجريمة أثناء انقطاعه بشكل ملحوظ، فلا يمكن التخلص من الجريمة بشكل كامل إلا إن كان للإنسان رادعٌ من نفسه.

وهناك أمراض تنتشر بسبب الفقر والجهل، وعلى المثل من ذلك هناك أمراض أخرى منشأها الحضارة والتمدن والغنى، إلا أنها تبقى أمراضًا يكون حلها الأمثل بالوقاية منها! وهل من الممكن أن يوجد أعظم من الوقاية والدواء الذي كرمنا الله بإعطائه إيانا؟

فلا يمكن لقانون أن يضاهي قوانينه سبحانه لأنه أعلم بخلقه، فقوانين البشر مقتصرة على عقلهم المحدود وقصر نظرتهم وشموليتها، ينتظرون نتائج قوانينهم، ثم يتدارسون قوانين جديدة، ولكن بعد ضياع كثير من الحقوق.

وهل يجتمع قانون أصله باطل بقانون أصله حق؟ فلا يمكن أن تُشاب قوانين الله بقوانين البشر فإن اختلط الحق بالباطل أصبح باطلاً، ولا يُستمدّ هذا من ذاك، فإما اتباع لقوانين البشر التي أصلها في كثير من الأحيان باطل ولا يمكن إلا أن يظلم بها كثير من الناس، أو التطبيق التام لقوانين الله وشريعته، الذي لا يُظلم بها أحد، مع الإقرار الكامل بأنه أعطى كل ذي حقٍّ حقوقه من المرأة والرجل والأسرة والمجتمع، فكان المنظومة الأفضل من العدل والمساواة والحكمة والرقابة، وهنا يجب علينا أن نفرق بين الأعراف والتقاليد وقوانين البشر وبين دين الله وقوانينه التي حاشى له سبحانه أن يظلم بها أحدًا، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36].

وصدق الله القائل:} وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً] {الإسراء:81]، فالباطل يزهق لا لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، بل لأن دعائمه تضعف، وتتخلخل عوامله أمام الحق، فما يكون منه إلا أن يتهاوى وينهار.

أما الحق فإنه يستمد عناصر وجوده من ذاته، وقد تقف ضده الأهواء وتقف الظروف، ولكن ثباته واطمئنانه يجعلان العقبى له ويكفلان له البقاء، فهو الحق من عند الله، وكفل له البقاء ما بقي البشر في الأرض }ومن أوفى بعهده من الله]{التوبة:111 [


المراجع

Everything-about-fourth-wave-feminism-prospect

HIDDEN-DARK-SIDE-OF “FEMINISM”

What’s-the-Problem-with-Feminism?-mark-manson

Why-women-select-college-majors-with-lower-earnings-potential-ohaio

ضحايا-العنف-في-دول-الأوروبية.

احصائيات-ضحايا-العنف-من-الشريك-أمريكا.

ضحايا-العنف-خلال-جائحة-كورونا

أعداد-النساء-المستخدمة-لموانع-الحمل.

نسبة-النساء-المعيلات-لوحدهن-الفقيرات-وأغلبهن-من-الأمهات-العاذبات

Single-mothers-much-more-likely-to-live-in-poverty

البغاء-للفتيات-في-المراهقة

الحجاب-والعمل-في-الولايات-المتحدة

Child-abandonment -University-of-Nottingham

Child-abandonment -University-of-Bochum

الأطفال-المتخلى-عنهم-بعد-انهيار-جدار-برلين

sociology-of-electrical-power-failure

 New-York-power-outage

Roma-mothers-sell-newborn-babies

Parents-sell-babies-on-the-Internet

بين-الحق-والباطل-صحيفة-البيان..

Poverty-rate-of-Black-single-mothers .

من-خالفك-في-المرجعية-فقد-خالفك-في-الدين-(الليبرالية،النِسوية…-د.سامي-عامري

هدى-شعراوي-رائدة-الحركة النسوية-تعارض-زواج-ابنها-وترفض-نسب-حفيدتها

بدون-حماية-كيف-تخلت-ألمانيا-عن-النساء-المعنفات

ميكي-كندال-التايم