المثالية بين الإفراط والتفريط

لطالما انعكست أصداء هذه الكلمة على مسامعي منذ نعومة أظافري، في المدرسة يختارون الطالب المثالي، الأم المثالية، المعلم المثالي، مسابقات لاختيار الطالب المثالي في الجامعة وغير ذلك الكثير. في الواقع هي كلمة برّاقة، فهي تغذي نزعة الكمال عند البشر، إلا أن ما لاحظته على مرّ السنين هو كون مصطلح المثالية مخادعة كبرى، نُخادع أنفسنا به تارة بالإفراط وأخرى بالتفريط..

على طرفي نقيض

أما عن كفة الإفراط، فهو ما أراه من السعي وراء حمل هذا المصطلح والتصنع أحيانًا كثيرة لسماعه من الناس، وهذا من أعجب ما أرى! لأنني أعتقد أن المرء المكتفي بذاته حقًا، لا ينتظر تقييم الآخرين له، ولا يضيء بريق عينيه إلا ممَّن لهم عنده فضلٌ ومقام، أما أن يكون مِداد نفسه من خارجه، فذلك قصور عظيم.

أتذكر هنا قول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله حينما قال جملته الشهيرة: “جنتي في صدري”، وهكذا يجب أن يكون الإنسان السوي، مصدر سعادته من داخله، لا ينتظر من غيره أن يعطيه المداد، وهذه هي المشكلة الأولى في هذا الأمر.

أما الملاحظة الثانية فهو المعيار الذي عليه يُحدَّد هل كون شخص ما مثاليًّا أم لا؟ أذكر منذ ثلاثة أعوام تقريبًا أعلنت الجامعة عن مسابقة الطالب المثالي، ولم تكن كسابقتها في المراحل المدرسية والتي كانت تعتمد على اختيار المدرسين للطالب المتفوق أخلاقيا ودراسيا _ وهذا نوعا مقبول_ بل كان على الطالب الذي يرى في نفسه أنه مثاليًا أن يتقدم!

حسنٌ، ما هي الشروط؟ يكفي أن تُقدم نفسك بالإنجليزية ويكون عندك بعض المعلومات العامة وبعض المهارات التي ستقدمها في السيرة الذاتية المُقدَمة في المسابقة!

بالطبع لم أتقدم رغم اقتراح عدد من صديقاتي ودخول بعضهن، لأنني رأيت ذلك دربًا من العبث، أعيش في دولة عربية مسلمة ثم أضطر لتقديم نفسي بالإنجليزية حتى أكون مؤهلة لأنال لقب “الطالبة المثالية”! لماذا لا تكون بالعربية الفصحى؟ والتي أُراهِن أن يجدوا وفرة ممن ينطلق لسانهم فيها بسليقة العرب، هل بعض المهارات أو الدورات تجعل مني مثالية! هل بعض المعلومات العامة المتناثرة من هنا وهناك كفيلة لإلباس الشخص ثوب المثالية! على أي معيار تقيسونها؟ ثم كما ذكرت آنفًا أرى من بداءة الأمر معه صك بطلانه، كيف تطلب فيمن يرى نفسه مثاليًا أن ينتظر شهادة غيره بهذا؟ وهل تعرفونني حتى تحكمون عليّ؟ ويُستبعد من هو خيرٌ من غيره لأنه ربما كانت لكنته الإنجليزية سيئة!، طبعًا فإن بعض من تقدم بالفعل كان فيه من المؤهلات ما تجعلهم يستحق أن يُحتذى بهم ويكونوا مثاليين، فكلامي لا يعني أن كل من تقدم كانوا غير مؤهلين، إلا أني أتحدث عن عموم المبدأ نفسه.

والبعض الآخر يفرط في أمر المثالية مع الناس! بمعنى أنه لو رأى شخصًا ديّنًا ذا خلق، فينزله منزلة العصمة، فإذا أخطأ أو زلّ  -كأي بشريٍّ على ظهر الأرض- فإن الدنيا ستقوم ولن تقعد، وسيسقطه من السماء السابعة إلى مكانٍ سحيقٍ على الأرض!

لا أدري لماذا سمح لنفسه أن يُخرِج مَن أمامه من نطاق البشرية مرتين! الأولى عندما رآه معصومًا، والثانية عندما خسف به الأرض حين أخطأ.

وكذا من يظن أن حياة من أمامه مثالية خالية من الابتلاءات والمصائب لمجرد أنه لا يشكو! وحتى يقتنع بالعكس ينتظر من أمامه يروي له مصائبه، وربما لا يقتنع بها ويظن أنه يرد عنه الحسد!

طبيعة الحياة والإنسان .. كيف ولِمَ؟

في الواقع لن أسهب كثيرًا في الحديث عن هذا النوع من البشر لأن أصل المشكلة ليست في مصطلح المثالية عندهم، بل المشكلة تكمن في فهم طبيعة الحياة والإنسان، والإنسان والحياة، وأنه خُلِق في كَبَد، وأنه ضعيفٌ ظلومٌ جهولٌ مجادل، فالحل مع هؤلاء لا يكون بسرد حياتك حتى يقتنعوا أنك غير مثالي، وأن النزعات البشرية تعتريك كما تعتريه وكما تعتري أي إنسان، ولا أن تسرع إليه برواية كل نازلة ليقتنع أن الدنيا دار بلاء أصلا، بل يحتاج لتأصيل هذه المعاني عنده من جهة التزكية والعقيدة معًا، وعندما تستقيم بوصلته ويتشرب هذه المعاني سيتوقف تلقائيا عن تلك الاعتقادات في الناس ودنياهم دون الحديث بحرفٍ عن هذا الموضوع.

أما جانب التفريط، فيبدو لنا جليًّا حينما نرى تعليقًا باردًا من قبل بعضهم حين يسمع الكلام والاستشهاد الكثير حول الأخلاق الحسنة والصفات الحميدة، فيقول لك: هذه مثالية زائدة لا توجد في الواقع ولا يمكن تحصيلها!

لعلّي أتنزّل معه، فأقول: يا أيها الإنسان، حاول أن تكتسبها؛ فيقول: لا يمكن! بل إن الأشخاص الذين يحملون هذه الصفات يتكلّفونها!.. حسنًا، هلّا تكلفتها كما تكلفونها فتألفها كما ألفوها، فيصدمك قائلا: لا!

عندما تحاول إقناع شخص عصبي مثلًا أنه يمكن أن يمرن نفسه على الهدوء والحلم والأناة، يقول لك “لا، كله إلا العصبية، أنا عصبي” يقول أنا عصبي وكأنه يقول: أنا طويل! وهل هي صفة جسمانية لا تنفك عنه.

الحق أن أي صفة شخصية _ مطلقة بلا استثناء_ يمكن للإنسان رياضتها وتهذيبها، قال الله عز وجل {قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دسّاها} [الشمس: 9-10] ولم يقل سبحانه وتعالى مثلًا قد أفلح من تزكت نفسه، بل أسند سبحانه وتعالى أمر التزكية ونقيضه للإنسان، في تأكيد على أن للإنسان يد في إصلاحها، والله يعين ويهدي ويسدد من علم صدقه سبحانه وتعالى.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) [أخرجه الطبراني في الكبير، وحسّنه الألباني] أي بيديك أن تتحلم كما بيديك أن تتعلم، وكما أنك استطعت أن تتعلم، فحتمًا تستطيع أن تتحلم، فيظن الظانّ أن معاني الحلم والأناة والصبر وكل هذا ضرب من المثالية التي لا يمكن أن يحققها الإنسان، وفي الواقع فإنه “يُلبس العجز جبة الحكمة” كما قال د. إبراهيم السكران فك الله بالعز أسره، فيُنّظِّر حول استحالة ذلك ويسهب في الحديث عن طبائع الناس لأنه لا يريد أن يُحمّل نفسه كلفة التزكية، وهي حقًا تحتاج جهاد ومثابرة، وستصل ثم تقع مرات عدة حتى يندمج فيك هذا الخُلق ويلتأم كأنك ولدت هكذا، وكأن هذه جبلتك.

لنا في رسول الله أسوة

وإن أردت أن ترى مثالًا أمامك تحاول أن تتمثله قولًا وعملًا وخلقًا وسمتًا، فعليك بسيد الخلق والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، الوحيد الذي يمكن أن تتخذه حقًا مثالًا لك، ولو أردت الإصلاح وتشجيع الناس على إصلاح أنفسهم والتسابق في ذلك، فليكن هو وأخلاقه وسنته ولغته المعيار الذي عليه يُقَّوَّم الناس ويوزنون، وإن أردت اقتباس تجلياته على بشرٍ غير معصومين، فعليك بالنجوم، عليك بخير رعيل خُلِق على ظهر المعمورة، صحابته وسادتنا رضوان الله عليهم أجمعين، ثم عليك بأعلام هذه الأمة وعلمائها وعظمائها، عليك بتلك العقول النيرة العظيمة التي حملت مِشعل هذا الدين.

أما لو التفت عن دربهم باحثًا عن مجدك وذاتك بعيدًا عنهم، فلن ينتهي بحثك أبدًا، فمن أصبح ماؤه غورًا، فمن يأتيه بماءٍ معين؟!