المآلات الفكرية للمدارس الإلزامية

image_print

إنَّ الناظر المنصف لتاريخ التطور العلمي لا يمكنه البتة إغفال دور المسلمين فيه، بل إن العديد من المستشرقين أبدوا انبهارهم الشديد بالعقل المسلم، وقد كان ذلك كان جليًّا على غرار ما نشره الفيلسوف النمساوي فريديريك شولتر المنبهر بعمق وعلميّة الأطروحات الخلدونيّة في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة، وحُقَّ له الانبهار به، فهو عقل استوعب العلوم الشرعية والإنسانية والطبيعية وأبدع فيهم، مما يلفت انتباهنا لمدى قدرات العقل المسلم، فحديث الإسلام المكثف عن تفاصيل اليوم الآخر -وهذا غيب- يجعل العقل المسلم معتادًا على النظر في الغيبيات، والخروج في حدود تفكيره عما يعهده الناس، والنظر في أمور الحيرة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن “الأنبياء أتت بمجازات العقول ولم تأت بمحالات العقول” [درء تعارض العقل والنقل].

لو حاولنا معرفة الأصل الشرعي الذي تبلور على إثره العقل المسلم، فسنجد أن أول ما نزل به الوحي في حدثٍ كونيٍ مهيب هو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق-١] فكان الأمر بالقراءة المُسددة بمعية الخالق تدفع المسلم إلى الانطلاق في الكون والطبيعة ومحاولة الاستقراء والبحث لتحقيق غاية الخلق.

لقد توقفت الباحثة البولونية بوجينا غيانة ستيجفسكا عند طبيعة النداء القرآني للنظر والتعلم، فكتبت تقول عن القرآن الكريم: “إن القرآن الكريم مع أنه أنزل على رجل أمي نشأ في أمة أمية فقد جاء بقوانين لا يمكن أن يتعلمها الإنسان إلا في أرقى الجامعات، كما نجد في القرآن حقائق علمية لم يعرفها العالم إلا بعد قرون طويلة” [تاريخ الدولة الإسلامية وتشريعها]، وقد كانت الحركة العلمية متوهجة بناءً على هذه النظرة.

التصور الإسلامي للمدرسة

بدأ التفكير الفعلي في إنشاء سلسلة المدارس التي تخط الحكومات نهجها مع مشروع المدرسة النظامية عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ، فقد استوزر هذا السلطان رجلًا قديرًا متحمسًا، هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أنه لتحقيق النهوض والاستقرار المجتمعي لابد من تحقيق نهضة فكرية داخل المجتمع، تصاحبها نهضة سياسية، وأن يعمل على تربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي.

ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه؛ لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة. وحرصت تلك المدارس على تدريس طلابها العلوم الطبيعية منطلقة من أصول النظرة الإسلامية، وكذا عنيت بتزكيتهم وإصلاحهم أخلاقيًا وعقديًا وفكريًا مما أدى إلى خروج مجموعة من صفوة العلماء مثل ابن الهيثم وجابر بن الحيان وغيرهم الكثير والكثير في الدول العربية والأوروبية.

وقد دعا إلى تفعيل مضمون هذه الفكرة مجموعة من المفكرين في ثمانينيات القرن الماضي فيما عُرِفَ بمشروع أسلمة العلوم، ورغم صحة أصل الفكرة إلا أنها لم تتبلور على أرض الواقع حتى يومنا هذا بسبب الاتهامات الموجهة له سواء من بعض الإسلاميين أو من العالمانيين، وكذا بسبب مجموعة من الأخطاء الحقيقة التي وقع فيها حيث إنه انطلق انطلاقة غير صحيحة فيما رآه من أخذ العلوم التي أنتجها الغرب وتخليصها من أصولها التي بُنيت عليها ثم صياغتها وفق الأصول الإسلامية.

إن هذه الفكرة تصلح أن تكون فكرة مرحلية للوصول للغاية، وهي ابتداء العلوم بصياغة إسلامية والانطلاق منها، أما أن تكون هي المُنطلَق يجعل عمل المسلمين مجرد رد فعل للآخرين، فالهُوية والحضارة الإسلامية متمايزة حتى في منطلقاتها، وكذا الضعف في تحرير المادة الشرعية التي تقوم عليها العلوم التجريبية والإنسانية، وكذلك الضعف في تصور المادة العالمانية والوثنية التي قامت عليها تلك العلوم.

كيف وصلنا إلى الشكل الحالي للمدارس؟

عند ملاحظة التغيُّر في الفكر الأوروبي على امتداد مرحلة البرزخ التي نشأ خلالها عدد من الحركات الأيديولوجية ذات نزعة عالمانية بعد تصادم العلم مع الكنيسة، ومع تصاعد الصراع بين العلم والكنيسة الكاثوليكية، تولدت حركة الإصلاح البروتستانتي وكان مارتن لوثر من أبرز روادها فدعا إلى كسر احتكار الكنيسة للسلطة التفسيرية للنص الديني، وكان الخلاص في نظره خلاصًا فرديًا -عن طريق القراءة الشخصية للنصوص المقدسة- ينطلق من ضرورة التخلص من وصاية الكنيسة في تفسير النص الديني، فانبثق من ذلك فكرة التعليم الإلزامي، فحتى يستطيع الفرد قراءة النص عليه أن يتعلم اللغة اللاتينية التي كانت حكرًا على الرهبان، ولأن الخلاص فردي فيلزم كل فرد أن يتعلم اللغة، وعلى الكنيسة أن تمارس التعليم العام كالمدرسة.

وجدت فكرة التعليم الإلزامي مسلكًا إلى أرض الواقع أثناء الحروب الأوربية حيث نشب صراع بين نابليون من جهة فرنسا وشارنهورست من جهة بروسيا، وكان شارنهورست مهتمًا بالتعليم، مؤمنًا بدوره الفعال في نتائج الحروب، وبسبب محدودية سلطته لم تجد أفكاره منفذًا لتُحقَّق على أرض الواقع، ولكن بعدما تلقى هزيمة ساحقة من نابليون؛ قرر ملك بروسيا فريدريك وليام الثالث منحه الحرية الكاملة في إدارة شؤون الجيش، فقام مباشرة بتطبيق أفكاره النظرية، ووضع منهجًا صارمًا للتعليم والتربية العسكرية، وسرعان ما انعكس ذلك على كفاءة الجيش وألحق بفرنسا هزيمة موجعة عام ١٨١٥م، مما أدى إلى لفت النظر والإعجاب بتجربته التعليمية وتعميمها على كافة أرجاء بروسيا، بل امتدت لتصل إلى كندا وأمريكا.

مع صعود الرأسمالية الصناعية لاحظ أصحاب المصانع هذا التغيير وفكروا في كيفية تنمية مصالحهم من خلاله، ووجدوا أن المدارس مكان مناسب لتخريج عمال جيدين، ورأوا أن المدارس يجب أن تعلم طلابها الدقة واتباع الإرشادات والصبر على ساعات العمل الطويلة المملة، ولكن لم يتحمسوا للإنفاق مجهول الجدوى بالنسبة لهم، حتى ظهر هوراس مان وهو محامٍ أمريكي مهتم بالتعليم، والذي بدأ بتطبيق أفكاره عندما تقلد منصب وزير التعليم في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٣٧م، والذي تلقى معارضة شديدة لكون التعليم الإلزامي منافيًا لمبادئ الديموقراطية، فتوجه لرجال الأعمال وأقنعهم ببذل أموالهم لإنجاح الفكرة، وأخبرهم بأن العمال المتخرجين من المدارس الإلزامية أقل شربًا للكحول لذا فهم أقل إتلافًا لآلات المصانع، وكذلك فإنهم أكثر ذهابًا للكنيسة مما يجعلهم أكثر انسجامًا مع عائلاتهم، وكان جون أوكفلر من أبرز المتحدثين عن الفكرة، حيث دفع من أجل هذه المدارس مبلغًا يربو على ما قدمته الحكومة الفيدرالية، مما أدى إلى تعميم هذه التجربة على أربع وثلاثين ولاية، وبدأت المدارس تأخذ شكلها المعروف آنيًا، ولكن عبّر جورج كريشتنشاينر عن وجهة نظره في دور المدارس الذي يجب أن يخرج مواطنين صالحين لا عمالًا ماهرين.

هوراس مان

وعلى مستوى الساحة الفكرية كان الظهور الأولي لمنهج ديكارت الرياضي ومنهج بيكون التجريبي -اللذَين وُضِعا للتحرر من المنطق الأرسطي- لا يتنافى مع المبادئ العقلية الضرورية ولا يجنح للنزعة العلموية، لكن انبثق عنهما فيما بعد بعض الاتجاهات المغالية التي جنحت إلى تقديس العقل والاعتماد عليه بشكل كامل والاستبعاد التام للغيبيات وما وراء الطبيعة، ومن هنا كان الظهور الأول للنزعة العلموية.

لمّا وضعت الحروب الأوروبية أوزارها بتوقيع معاهدة وستفاليا عام ١٦٤٨م معلنة شكلًا جديدًا للحكم متمثلًا في الدولة القومية الحديثة، ووقع تصدير هذا النموذج الغربي خارج إطاره بوصفه منتجًا نهائيًا قابلًا للتفعيل، ونمطًا يقوم على وجود إقليم ترابي محدّد بالحدود التي تصبح  مقدسة، مع وجود لغة أو مذهب أو إثنية مشتركة في نفس الشعب، مع الاشتراك في تاريخ ولو كان منتحلًا أو متوهَّمًا، ثم تكون للدولة السيادةُ على الإقليم ليقع تعريف الدولة الأمة. وبدأت تترسخ المبادئ العالمانية في الدول الخاضعة لهذا النظام.

وقائع عملية

في ظل هذا التراكم للأحداث على أصعدة متعددة وفترات زمنية واسعة نسبيًا خرج تشارلز داروين بكتابه أصل الأنواع عام ١٨٥٩م يعرض فيه نظريته عن نشوء الحياة، وكان لهذا الحدث أصداء واسعة ومآلات كثيرة، حيث ظهرت النزعة الإلحادية في القرن التاسع عشر، وجنحت النزعة المادية، بل وامتد الأثر للعلوم الإنسانية فنجد تطور الفكرة من نظرية بيولوجية إلى نظرية في علم النفس والاجتماع وكذلك الاقتصاد فماركس -على سبيل المثال- استمد من نظرية داروين مادية الإنسان وجعل مطلبه في الحياة ينحصر في الحصول على (الغذاء والسكن والجنس) مهملاً بذلك جميع العوامل الروحية لديه.

وكذا استمد فرويد من نظرية داروين حيوانية الإنسان فالإنسان عنده حيوان جنسي، لا يملك إلا الانصياع لأوامر الغريزة وإلا وقع فريسة الكبت المدمر للأعصاب.

وكذلك أثرت هذه النزعة المادية على حركة الاستشراق حيث اضطرت الأوضاع الحرجة في الحربين العالميتين الساسة وصناع القرار إلى مطالبة المستشرق الكلاسيكي الذي تربى في أحضان علم اللاهوت والفيلولوجيا، وأحياناً علم التاريخ، بتحمل مسؤولية السياسة الحديثة، والاقتصاد، والمجتمع، فراح يتحدث عن كل شيء من المعلقات الجاهلية إلى الصناعة البترولية، والبنك الحديث! كما يقول برنارد لويس ساخراً. كانت نواقص هذه الحالة جلية للعيان، وهو ما شجع التوجه نحو التخصص المتزايد، والاستعانة بمناهج أخرى جديدة؛ كانت هذه الإشكالية أحد تمظهرات أزمة الاستشراق الكلاسيكي، والتي بدأت تتفاقم، إلى جانب النواقص الصارخة التي كانت تعتري الأطروحة الاستشراقية الكلاسيكية؛ كاستبطانها لفكرة التفوق العرقي، والمركزية الأوروبية. [حول الاستشراق الجديد، د. عبد الله الوهيبي].

كان نِتاج كل ذلك منعكسًا بحذافيره على المناهج الدراسية في المدارس الإلزامية المنبثقة شرارتها الأولى من نزعة عالمانية، فنجد أنه تم الفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية، والإغراق في التخصص والفصل بين العلوم المختلفة، وبُثت فكرة العلموية المتمثلة في حصر وصف العلم في العلوم الرصدية التجريبية، والفصل التام بين العلوم الطبيعية والإنسانية في المراحل الثانوية، في لفتة تحصر قدرات العقل البشري في جانب واحد، وكأنه لا يمكنه استيعاب علوم مختلفة في آن واحد! وبسبب النزعة العلموية أصبح هناك توجهًا اجتماعيًّا ينظر نظرة دونية لدارسي العلوم الإنسانية، ويظن البعض أنهم ليسوا على درجة من الذكاء الكافي لفهم العلوم الطبيعية، وتهميش أدوارهم الاجتماعية والإصلاحية، مما أدى إلى الوقوع في أخطاء منهجية ناتجة عن هذا الفصل الحداثي للعلوم.

لكن هل يمكن الفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية عمليًّا؟، وما الضمانات الإسلامية للعملية التعليمية وملامح الحل؟

هذا ما أسعى للإجابة عنه في مقال لاحقٍ بإذن الله تعالى.


مصادر للاستزادة

  • محاضرة مقومات العقل المسلم د. سلطان العميري

https://youtu.be/tABz05xSoGs

  • المدارس النظامية في الحضارة الإسلامية

https://islamstory.com/ar/artical/23965/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9

  • كيف أنجبت الحرب المدرسة للباحث سعد القحطاني.

https://youtu.be/4BVQCY4FM6c

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد