السوبر ماما بين حمل القشّة والجبال!
حين يتسارع العالم من حولنا، نقف مشدوهين أمام التحوّلات التي تصيب أركانه بالعطب، وهنا نقف أمام لبنة أساسية لابدّ أن نحرص على عدمِ إصابتها بالتغيّر نحو الأسوأ، أو نسيان الماهيّة والوظيفة ومعالم الهداية، ولذا فإنه يجب أن تُسقى باستمرار لتسقيَ أرواح من تعول زلالَ الماء، إنها الأمّ، فالأمّ مفهوم عهدناه قليل الحروف كثير القطوف، فهل انقلبت الموازين وصار الأثر قليل الثمر؟
إننا نجد الخطر عند بعض الأمّهات إذ إنهم غير مستعدّات لحمل أدنى مسؤولية، وعلى الجانب الآخر نجد مصطلح (السوبر ماما) حيث تكون الأم فيه النموذج والشكل المتكامل الذي لا يشوبه ثغرة ولا نقص، إلا أن في هذه الرحلة خسائر تتساقط على جانبي الطريق، قد تكون هي الأمّ نفسها، أو أولادها..
الأمهات ومفهوم اللامبالاة
اللامبالاة سلوك اجتماعي، يسبّب مشاكل مجتمعية عمومًا وداخل الأسرة بشكل خاص، لاسيما إذا كان صفة تلازم أحد الوالدَين، حيث يظنّ البعض أن اللامبالاة وسيلة للتخلص من ضغوط الحياة ومتاعبها، ويكون مقتنعاً بأنه لا شيء في الحياة يستحق أن يبذل جهداً من أجله.
ولابدّ أنّ الانشغال الزائد بأمور الحياة خارج الأسرة كالعمل، وجمع المال وتحقيق الذات، يشكّل عاملاً أساسياً لانهيار بنيان الأسرة، فالسفينة كي تصل للمرسى لابدّ من ربّان يحسن القيادة والتوجيه.
إلا أننا نرى كثيراً من الامّهات تعتمد هذا الأسلوب وهن جاهلاتٍ بعواقبه، يشترين الرّاحة المؤقّتة لبيعِ بناء كيان أودعه الله تعالى بين أيديهن، حتى إن إحداهنّ لا طاقة لها على حمل قشّة مهمّا خفّ حملها.
كيف تسلّل مفهوم (السوبر) للأمّهات
في عصر التسارع التكنولوجي باتت الأمّ كقصّة باخوم الذي أورده تولستوي في إحدى قصصه، باخوم الذي ربح كلّ شيء وخسر نفسه، باتت الأمّهات يحاولن الإحاطة بالمجد من جميع أطرافه بين عمل خارج المنزل وعمل داخله وتربية للأطفال وابتكار مستمرّ لكلّ جديد، ناهيك عن الصورة الاجتماعية المثالية التي تحرص أغلب الأمّهات على الحفاظ على إظهارها للآخرين.
في بادئ الأمر أنوه إلى أني لا أدعو لأمّ متصلّبة غير مرنة، وإنما أحاول تسليط الضوء على الرحلة نحو المثالية المرهقة.
فالمثالية مصطلح حارق للنفس ومحرق للغير، وهو مصطلح يسبّب عقدة دائمة من الشعور بالذنب في حال عدم الوصول للمراتب العليا التي يرسمها الشخص لنفسه، ويسبب قلقاً في حال الوصول للقمّة، وأرقًا دائمًا لإيجاد السبل للمحافظة عليها، وتُعرف هذه الظاهرة بـ (الاحتراق النفسي) الذي يتوزّع على ثلاث مراحل: أولها: الإجهاد الانفعالي ثم تبلّد المشاعر ثم نقص الشعور بالإنجاز الشخصي، لذلك يغدو مصطلح (النموذجيّة) هو المصطلح الأفضل، فهناك نماذج ناجحة كثيرة، من الأمهات ممن تراهنّ نموذجاً ناجحاً من ناحية ما، إلا أنهن يعانين من ناحية أخرى، فلا كمال مطلق.
إن السعي اللاهث خلف الإحاطة بكلّ النماذج سينتج أمّهات يعانين من الهشاشة الداخلية، وهذه الهشاشة مترتبة على محاولة الحصول على كلّ وسام شرف، والطامّة الكبرى تكمن في أنّ هذه الشخصية التي ستتولّد وراء السعي نحو كلّ شيء والظفر بلا شيء ستؤثّر في تربية الأولاد، فتجد أمّهات يعجبهنّ تفوق أولاد فلانة بالحساب الذهني فتراها تسرع لتعليم أولادها الحساب الذهني، وما إن يبدأ الطفل بالسعي نحو الهدف، حتى يصطدم بوالدته التي ترى هدفاً آخر لامعاً فتطالب أولادها بالعمل عليه، مما سيجعل من الطفل شخصية غير متوازنة لا تعرف ما تريد.
بكل تأكيد فإن هذه ليست دعوة للتخلّي عن السعي نحو الأفضل، فمن لا يتجدّد يتبدّد، ولكن يبقى تحديد الأولويات هو الفارق الأهمّ بين النجاح والفشل في التربية.
ألف باء التربية
من المعروف أن 80% من شخصية الطفل التي تصحبه بقيّة عمره تتشكّل في الخمس سنوات الأولى من حياته، وباقي النسبة يستمدّها طوال رحلته في الحياة.
هذه النسبة تحتاج لقلبٍ واعٍ وعقل مدرك لمهمّة التربية، وتبدأ التربية بالقدوة إذ إنّ الطفل لا يبنيه التلقين، وإنّما يبنيه ما يراه مترجماً أمامه على أرض الواقع في هيئة أفعال، وهنا لا بدّ من الإشارة أنّ الأمّ يجب أن تكون على دراية وانتباهٍ لكلّ ما يصدر عن أولادها، والتحلّي بالحكمة باختيار الفعل المناسب في الوقت المناسب.
وينبغي للأمّ أن تبتعد عن المقارنة إذ إنّه عندما تبدأ الأمّ بمقارنة أولادها مع بقيّة الأطفال التي تراهم حولها، فإنه ستتسبّبُ بتضييع أولادها وعدم مساعدتهم على تحديد ما يريدون تماماً، إذ إن الطفل ليس حقل تَجارِب، وإنّما هو كيان إنساني يجب على من يسقيه أن يتعلّم متى وكيف يسقيه، وهنا لابدّ للأمّ أن تتزوّد بالاطّلاع ونخل ما ينفع وما لا ينفع.
الأمّ بين الواقعية والمثالية في وسائل التواصل
ثمة نقطة مهمّة يجب على كلّ أمّ بشكل خاص وعلى كلّ متصفّح لوسائل التواصل بشكل عام أن يعرفها، إنها الصورة التي يتمّ بثّها من قِبل أحد ما، إذ إنها إنّما أُخِذَت من زاوية مُنتقاة، اختار أحدهم أو اختارت إحداهنّ تسليط الضوء عليها، فلا أحد يعرف ما وراء هذه الصورة من نواقص، حيث يستطيع أي إنسان أن يظهر بالطريقة التي يريدها، وأن يقوم بالدور الذي يحبّه، وهنا لا يمكن تلقي أية إشارات للحكم على مدى مصداقية تلك النماذج من عدمها.
من المحال أن يكون ثمّة شخص متفوّق بكلّ شيء، ومن هنا فإنه يجب على الأمّ ألا تجلد ذاتها بالسعي الحثيث لاصطناع نسخة تحوي جميع ما يتمّ تسليط الضوء عليه، وإنّما أن تحرص على ريّ نقاط القوّة بداخلها من أجل الهدف لا من أجل لفت الأنظار، والهدف لا يأتي من طرق متشعبّة، وإنّما يأتي من طريق واضح جليّ، وفق خطّة مدروسة وأولويات مرتبة مصفوفة.
هوس التفكير بالشهرة والثروة
هي ظاهرة بدأت تنتشر، حيث تشكو كثير من الأمّهات أنّها تصل لمرحلة يُسقَط في يدها ولا تعلم كيف تتعامل مع أولادها، ها قد بدأت الفجوة بين الجيلين بالاتساع، ومعها تجد الأمّ نفسها بين خيارين:
إمّا التشبّث بأفكارها التي لم تقم بتحديث لها وفق مقتضيات العصر، تحديثاً لا يشوب الثوابت والمبادئ، وإما أن تجد نفسها تلجأ إلى المسايرة السلبية والاستسلام لما يريده أولادها.
وتصبح الأم بين تضييع وتمييع، فلا هي قادرة على التحكّم بزمام الأمور ولا هي قادرة على حياكة الثوب بما يرضي جميع الأطراف.
وقد تتحدّث مع أمّ تقول لك: إن الزمن أصبح صعباً للغاية، فلا قدرة لنا على ضبط البوصلة، ولا ترشيد اتجاهِ الأبناء.
وكيف نضبط البوصلة إن لم تبدأ منذ الشهقة الأولى للطفل! وكيف نتحكّم باندفاع الماء إن لم نحفر المجرى باتجاه صحيح منذ أن كانت مياه النهر ما زالت ساقيةً تخطو بنعومة! أيعقل أن نعالج الأمر عندما يحطّم اندفاع الماء السدّ!
تلك تساؤلات ينبغي أن تقف عندها كلّ أمّ لتعلم أنّ درهم وقاية خير من قنطار علاج.
يأتي الطفل الآن مع المدّ الجنوني في كافة وسائل التواصل الاجتماعي، يحمل بيده وسيلة من وسائل الاتصال، وقد يرمّم لك بمعرفته أسرار هذه التطبيقات ما قد ينقصك من معلومات.
طفل يرى أقرانه يقومون بإنشاء قنوات خاصّة بمحتوى تافه ويحصدون ملايين المتابعات، ذاك الطفل من له إن كانت الأمّ قد صمّت آذانها وأغلقت عيناها عن الإدراك!
فأمّهات جعلن من أبنائهن رأس مال يدرّ عليها الأرباح، وأمّهات يتباهين بعدد المتابعات، وأشياء لا يتسع المقام لذكرها.
وإن استفهمتَ من إحداهنّ، تراها بين العجز عن التصرّف أو الإعجاب بتطوّرها ودعمها لأولادها.
ربّما تختلف العصور، إلا أن هناك –على الدوام- قصص مشابهة، تلقّن الأمّهات فيها معنى التربية الحقّ، تعلمهم معنى المرونة دون تمييع، وإرخاء الحبل بقدر دون تضييع.
أمّي أريد أن أصبح مغنّياً!
يقول الإمام مالك بن أنس: (نشأت وأنا غلام فأعجبني الأخذ من المغنّين، فقالت أمي: يا بنيّ إنّ المغنّي إذا كان قبيح الوجه، لم يُلتفَت إلى غنائه، فدعِ الغناءَ واطلب الفقه، فتركتُ المغنّين وتبعتُ الفقهاء فبلغ الله بي ما ترى)[1].
هل سارعت أمّ الإمام مالك بن أنس لصقل موهبته، وتقديمه لسوق يُعنى بإطلاق المواهب! وهل كانت من رهافة الإحساس لتبكي عند فوزه على أقرانه لتفوّقه بالغناء!
لم تلجأ لذلك وإنّما كانت مرحلتها الأولى: أن رشّدت مسير الماء كي يغدو زلالاً يروي وينفع.
فقالت له: (يا بنيّ إنّ المغني إذا كان قبيح الوجه، لم يُلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه)
مع العلم أنّ الإمام مالك لم يكن قبيح الوجه، وإنّما كان وسيماً ذا شقرة، فلم تقل لولدها أنّه قبيح الوجه، وإنّما طرحت قضيّة غير حاصلة على سبيل الإيحاء والتلطّف لصرفه عن عزمه.
وكانت مرحلتها الثانية: تأمين المراسم الشكلية، فالإنسان ابن بيئته وابن ما يُزرع فيه، فألبسته ثياب العلماء من قلنسوة وعمامة وأرسلته لطلب العلم.
يقول الإمام مالك: “فألبستني ثيابًا مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي -يعني القلنسوة الطويلة- وعمَّمتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن!”[2]
وكانت المرحلة الثالثة: اختيار المنبع الصافي، فاختارت له الأستاذ، فواجب الأهل أن يدرسوا مكان وضع أولادهم، وأن يختاروا خير المعلّمين، وكان أشهرهم آنذاك ربيعة بن أبي عبد الرحمن فتقول له: “اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه”[3] ومقصدها بالطبع هو تعلُّم العلم والأدب جميعًا.
وبذلك ابتدأ الإمام مالك رحلته في درب العلم حتى صار نجماً فيه، حيث يقول الإمام الشافعي: “إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه بعد التابعين”[4].
[1] مصطفى الشكعة: الأئمة الأربعة، دار الكتاب المصري – القاهرة، دار الكتاب اللبناني – بيروت، الطبعة الرابعة، 1998م، ص: 6، 7.
[2] الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، ابن فرحون، ص: 9.
[3] ترتيب المدارك وتقريب المسالك (130/1)
[4] المصدر السابق ذاته.