الرسالة الأخيرة
تخيل معي أيها المسلم أن مسافراً من المستقبل أتى إليك وعلى وجهه كل نظرات الكآبة والخوف والهلع وصدره ينتفض شهيقا و زفيرا من هوْلِ ما رأى وهرب منه، ثم أخبرك أنه جاءك ليحذرك من طامّة ستحدث لك قريبا، واستضعاف سينالُك، وسيتم التنكيل بك وسيحاولون كل جهدهم قتلك وقتل عائلتك وتشريدهم واغتصاب أقاربك من النساء وخطف أطفالك وتغيير ديانتهم ونسبهم لغيرك. وسترى من المصائب ما تسودُ به عيشتك فلا تدري أين الطريق، ولا النور ولا الظلمات.
فما كان منك إلا أن سألته بتلهف وخشية من مصيرك المحتوم: إذا ماذا أنا بفاعل؟! وكيف الوسيلة لتفادي كل هذا؟!
فكان ردّه أنه ترك لك إرشادات وتعليمات تدفع عنك هذا وترفعه وتوجّهك وتعينك على ما سترى، وبها يمكنك تبديل حالة الاستضعاف لحالة التمكين والعزة ثمّ قال لك أنه لن يستطع العودة إليك مجدداً، وعليك وحدك تحمّل نِتاج أفعالك واختياراتك، وما لبث أن غادر وترك لك تلك “الرسالة الأخيرة”.
لنتعرف إلى الرسالة الأخيرة
إنه من الجليّ أن مقصدنا بالرسالة الأخيرة هو القرآن، فقد أرسل الله محمداً رسوله وخاتم الرسل وسيد بني آدم ﷺ ومعه القرآن لينذر الناس ويهديهم من الكفر إلى الإيمان. فكان القرآن هو بمثابة آخر رسالة من الله عز وجلّ لنا فلو أدركت عظمة وقدرة وقدْر المُرسِل، لاستشعرتَ قيمة وأهمية الرسالة التي بين يديك.
هو الله خالق السماوات والأرض وخالقنا، خلقنا لحكمة من عنده سبحانه وتعالى، ولم يتركنا لأنفسنا نفسد في الارض ونقتل أنفسنا ويظلم بعضنا بعضاً، فتُسْفك الدماء وتضيع الحقوق. وإنما حين استخلفنا فيها أرسل لنا الرسل والانبياء ليرشدونا ويعلّمونا ويكونوا لنا دلالة على الطريق كالنجوم نستهدي بها السبيل. فكلما استفرد الإنسان بقوته وعلمه وعقله، أرسل الله له من ينذره ويدعوه إلى الإيمان وتحقيق مراد الله من خلقه. فإذا أبى عذّبهُ الله وأهلكه بعناده وكبره.
حتى أتى موعد الرسالة الأخيرة وجاء بها محمد ﷺ، أخبرنا بما سيكون لنا في آخر الزمان من فتنٍ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمْسي كافراً ويبيع الرجل دينه بقليل دنيء من الدنيا رديء ومتاعٍ محدود(1) ويحذرنا من تكالب ملل الكفر على بيضة المسلمين، وهوانهم وانكسار شوكتهم(2)، يوالي ويتبع المسلمون اليهود والنصارى بحثا عن العزة، ولا يبقى للرجل المؤمن أخير وأسلم من الفرار بدينه بعيدا إلى أعالي الجبال(3).
فأمرنا ﷺ بمعاهدة القرآن ومداومة الوصال به، وبشرنا بالضلال والضياع والحيد عن الطريق المنشود إن نحن استمسكنا بغيره ونشدنا الهداية والصلاح واستصلاح العباد والبلاد بدستور غير ما انطوى عليه القرآن، فهو الرسالة الأخيرة للعباد من ربّ العباد.
فينبغي للمسلم أن يعي قدر ما بين يديه من الرسالة ويحاول فهمها وتدبرها واستخلاص المعاني الموجودة فيها والعمل بها والحث عليها ونشرها وتبيينها للناس. ومما يُعين على ذلك أن يَدرس ما بها من موضوعات رئيسية وأفكار أساسية يتتبعها ويتعلم منها مراد الله في كلّيات الأمور فإن عَلِمَ الُكلّيات وضَحَت له عِلّة الجزئيات وأسبابها وفوائدها.
تِبيان مسؤولية المسلم
ولأن المرسَل إليه هو الإنسان، فمن المتوقع أن يوجّه إليه الكلام ويُخاطب بالأمور والتكاليف والمهام التي من أجلها خُلق، ولله الحكمة في شؤونه. فقامت الرسالة بتبيين الغايات وأولى الأولويات، التي من أجلها خلق الله العباد (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فتحقيق العبودية لله هيَ مطلب المؤمن في الدنيا ومسعى كل ذي علمٍ ولُبّ، وكانت العبادات وسيلة تحقيقها، فيصل العبد لكمال عبوديته بطاعته المطلقة لمولاه، وتنفيذه لأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره.
فإذا قال الربّ عزّ وجلّ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 56] كان تنفيذ أمره واجبًا، لا يصح معه رفض أو اعتراض أو تباطؤ فيه. وأضْحت طاعة نبيه من طاعته. وإن نهانا الله انتهينا، فلا خير فيما حرمه الله علينا فهو مولانا وأعلم بنا منا، وذلك حتى إن لم نعِ الحكم من ذلك المنع والتحريم.
المسؤولية المجتمعية
أما عن المجتمع الإسلامي ككل، فهو مجتمع مُختص بكونه أمة واحدة لا يفرقها حدود أو بلدان، كتلةٌ صلبة في ذاتها، وجهت لها الرسالة أوامر ونواهي مباشرة، وحضّت على نبذ الفردانية والأنانية، وجرمت حرية الفرد مجتمعيا إن كان فعله مخالفاً لتعاليم الشريعة، حتى وإن لمْ يضّر أو يؤذي غيره، ففي مجتمع الإسلام لا يجب أن يُسْمح بأيّ وجودٍ لنبتةِ الفسق والاعتداء على حدود الله، لذلك اعتنى القرآن بأهمية التواصي على الخير فيما بين أفراد الأمة {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وأكد على أهمية العمل سويا لأجل الأمة نفسها وخدمة ما ينفعها في دنياها وآخرتها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وحرّم الاجتماع على شرور الأمور وفسادها {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وأكد على ضرورة التناصح بين المسلمين والحث على زجر مرتكبي المنكرات علناً {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وحُق في أمتنا أن تُوصف بالخيرية إن هي اتبعت سبيل المؤمنين ودولة السابقين الراشدين في الدعوة إلى الخير وكف يدِ الفاسقين المعتدين المتباهين بذنوبهم، فتنجوا بإذن الله ورحمته من لعنة الله كما لُعِنت أختها من قبل بتركهم تناهي بعضهم البعض عن ارتكاب الفواحش والسيئات {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]
ومهام المسلم وتكليفاته -الخاصّة به كفرد أو بالمجتمع ككل- في القرآن مفصّلة مبينة، منها الجهاد والصيام والزكاة وغيرها، وفي سنة النبي ﷺ قولاً وفعلاً نموذجا لها. ثمّ إن تتبعها جميعا هنا غير ممكن والغرض من ذلك الفصل هو المرور على أمثلة لها تشرح الفكرة، والفائدة الأكبر لمن أتخذها دربا له في البحث والتدقيق عن شبيهاتها في القران فيعمل بها.
الرسالة وتشريعات المسلمين في الدنيا
كما هو معلوم أن الدنيا دار ابتلاء، وجسرٌ يُعبر عليه الى الدار الآخرة؛ ولأن الله لم يتركنا لنفسنا وللشيطان يغوينا ويضلنا فكانت رسالته الأخيرة لنا محتوية على ما ينفعنا ويُسهّل علينا دنيانا وأمورنا الحياتية في المعاملات اليومية بين المسلمين، وفيها تشريعات لحياتنا الدنيا نتخذها حتى تُحفظ حقوقنا بيننا، ففيها تقسيم الميراث وكيفية كتابة الدَيْن والفصل في قضايا النساء من طلاق وزواج، وتبيين ما يجوز أكله وشربه. فبها يُفرق بين الحلال والحرام، فعندما يدّعي بعضهم أن الربا مثل البيع، تأتي الرسالة بالقول الحاسم الفاصل موضحةً الحكم للمسلمين {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فينصاع الناس لما قيل ويتبعون تشريعاته المُحكمة.
الرسالة وتمييز الحق من الباطل
وفي اتباعها وملازمتها الهداية -بإذن الله- إلى السبيل الحق واجتناب الضلال، والرُشد الى الصواب من الأمور، فتحْمِلك عن إتباع النفس والهوى، وتبصّرك بما يقوّم عيشتك ومعيشتك {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وترى بها الحق حقاً والباطل سدىً، وما أفضلها من نعمةٍ حين تُرزق نعمة تمييز الحق عن الباطل في زمنٍ التبس فيه الشر ثواب الخير وادّعى فيه السفهاء العلم والفهم، وتكلم الناس فيما جهلوا، وكثر شيوخ السلاطين ومواليهم، فلم تعد تعرف صدق أو كذب فتواهم وكلامهم، وكَثُر أتباع الدجال وإن لم يظهر بعْد. فهنا تجد الرسالة لك كالبوصلة على الطريق، تحدد لك الجهة المراد سلوكها، فترى منها أهلها وطالبيها من أهل القرآن، وتعرف بها الصواب وأهله فتتبع سبيلهم، وتكشف لك فعل المنافقين وصفاتهم فتحذرهم، فتكون فرقاناً بإذن الله.
تغيير تصورات المسلم
ومن أخص خصائص الرسالة وأنفعها هي ترتيب أولويات المؤمن وإعطاء المشاكل نظرة مختلفة تهونها عليه ويدرك بها قيمتها الحقيقية ويضعها في مكانها الملائم بين الهموم. فيأتي في ثنايا الرسالة أن المسلم مأمور بطاعة الله وتأدية عباداته كما سبق ذكره، ثمّ إذا تطرقت الى الرزق كمثال لهمًّ من مشاغل الدنيا كان جوابها {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] فتوجهه على ما هو مطلوب منه كالصلاة وتبعده عما هو مرفوع عنه كالرزق، فقد قسَمه الله له من قبل أن يخلقه. وتجد أن الله لا إله الا هو، خالق كل شيء وله مقاليد الأمور وهو القاهر فوق عباده، هو الغنيّ ونحن الفقراء إليه قد أخبرنا فيها {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ثمّ يقسم بنفسه على ذلك {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23]. فتتبدل رؤيتك لقسمة الرزق وتظن في الله خير وتطمئن.
وإذا نزلت نازلة أو حلّت مصيبة على الأمة، جاءت الرسالة تخفف عنا وتبصّرنا بمآلات الأمور وعواقبها وتحثنا على الصبر {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] ثم تبشرنا بمثابة ذلك الصبر وأن ينعت الله الصابرون بصفة المهتدون ومن بعدها توضح جزاء المهتدون وهو أنهم {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وعسى أن يكون مأواهم الجنة ثوابا على صبرهم وعملهم.
الرسالة والمعيار الحاكم لأفعال المسلمين
ومما وعته الرسالة وفصلته وأكثرت من ذكره خلال آيات الرسالة وسورها هو التمييز والفصل بين المسلمين الموحدين بالله والكفار المعاندين المشركين، وأشارت إلى قوة وعزة المسلم بالله ودينه {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [آل عمران: 139]، فتحفظ المسلم من ذلّ التَبَعية لكل من لا يؤمن بالله، ويضع في نفسه صفة الاستعلاء بالله ودينه.
غير أنها تبين له المعيار الحاكم لأفعال البشر، فربما يجد المسلم في نفسه استحسانا لمساهمة بعض الكفار في خدمة وتطوير كل ما ينفع الإنسان، ويشعر بالحيرة والشك والتخبط خاصّة عندما يرى الظلم والفساد والتخلف الذي نال بلاد المسلمين. ولن أخوض في أسباب تلك الحالة التي وصل لها المسلمون أو أسرد القول في أفعال الغرب الكافر بالمسلمين أو بين أنفسهم، فليس ذلك هدف المقال. ولكن هيمنة الغرب وضعف الأمة الإسلامية قد أثر بالسلب على بعض المسلمين وأحدث خللاً في نفوسهم وفي تصورهم عن الإسلام.
تنبهك الرسالة أن أفعالهم لا تنفعهم ما لم يؤمنوا، وأن شرط قبول عملهم في الآخرة هو الإيمان {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه 112]، وإن عظم في عينيك أعمالهم وتقدمهم وبنائهم فتذكرك بمصيرهم يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] فلا يبقى منه شيئا، ولئن شاهدت لهم رفعة وشهرة وقوة في الدنيا فتذكرك -الرسالة- بأن الدنيا فترة عابرة والآخرة هي دار الحياة ثم إن {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، فاعمل بعملهم واتّبع نهجهم وسبيلهم وعسى أن يمكننا الله منهم ويعزّنا بقرآنه ودينه فتكون لنا اليد الأعلى في الدنيا، ثم الخلود في الجنة.
النذير الأخير
ولأنها الرسالة الأخيرة فكان فيها النذير الأخير لكل البشر، نذير سيدوي ذكره آجالا طويلة وسنينا عديدة، يدل الناس على الإيمان ويحذرهم من العصيان ويفصّل لهم حقيقة الدنيا وقلة مكانتها وقدرها. ينبئهم بأن الأمر جلل وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وإنها يوم كخمسين ألف سنة مما يحسب البشر، بدايته صاعقة يقوم بها من في القبور عرايا، أحياهم الله كما خلقهم أول مرة، تحسب من هيئتهم السُكْر فتراهم هلعين خائفين يتخبطون لا يقدرون على المسير من هول ما سمعوا ومن خشية ما هم مقبلين عليه وسائرين إليه {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2].
تُصور لك الرسالة مشاهد يوم القيامة والبعث والحساب، فهنالك يجد كل امرئٍ ما عمل ويحصد ما صنع في حياته، ويُنادى الناس للمحاسبة والمسائلة فيلقون الله وحدهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] فلا تجد صاحبا أو قريبا يدفع أو يدافع عنك أمام الله، لن ينفعك إلا عملك، والله أخبرنا أن {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 7].
يحاسبهم الملك عز وجل على ما صنعوا وهو أعلم به منهم، فيجد الإنسان كل صغيرة وكبيرة في كتابه لا ينقص منه شيئا {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء 47] فلا يظلم ربك أحدا، وله الحكم والقول الفصل.
تشير الرسالة في غير موضع عن أننا عباد الله وعلينا طاعته، فتبشر تارة بنعيم الجنة ترغيبا وتارة أخرى بعذاب الله وجحيمه ترهيبا. تقص لنا قصص الأمم الهالكة من السابقين وكيف كان عقابهم، وتحكي لنا سيَر الأولين الصالحين وكيف كانت الجنة مأواهم الأخير، فتكون في فصصهم عبرة لنا ولمن بعدنا نقتدي بها وبهم حتى نجني ثمار ما جنوا.
تأخذنا -الرسالة الأخيرة- في رحلة الى النهاية الأخيرة الوحيدة لكل البشر، تلك النهاية التي تُهْزم بها اللذات وتنطفئ بها الشهوات ويفرّ كل بني آدم من ذِكرها أو تذكرها، تلك النهاية التي تُنسى وتستصغر من أجلها كل مآسي الدنيا والهموم، وتُوقظ بها الغافلين.
تُخبر الغارقين في ملذات الحياة الدنيا والمعتدين لحقوق الله وحدوده، المتشبثين بلذة فانية ومتعة زائلة، مسرفين على أنفسهم بالذنوب، غافلين عن موعدهم ومآلهم، وأن كل ما يرتكبونه إنما هو في الدنيا، وأن مقرهم واستقرارهم فيما بعد الموت وأن الأرض فانية والدنيا هالكة {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن 27].
فيا أيها القارئ للرسالة الأخيرة! إن لم تكن في موكب الناجين ستكون يومئذ من النادمين، يوم تقف أمام الله وقفة طويلة مهيبة، يعقبها جنة أو جحيما أبديا، فكما تعلم أن الله غفور رحيم فإنه كذلك شديد العقاب.
تلك صور متعددة محدودة من نذير القرآن وتحذيره للناس أجمعين، ولا يسع المقال للتفصيل والتبيين في أكثر من ذلك، والقرآن بين يدي كل مسلم يمكنه تدبره واستخراج كل الآيات التي تحمل هذا المعنى، فتكون له واعظا ونذيرا.
اتبع وحي الله إليك!
إن منزلة القرآن كونه الخطاب الأخير من الله لعباده يستوجب منا كل الاهتمام والانتباه والتمسك بما فيه، والنظر إلى توصيف النبي على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان ﷺ قرآنا يمشي على الأرض، يبين لنا كيفية الاتباع والعمل بما فيه، فقد كان ﷺ نموذج التطبيق العملي لما جاء به القرآن من أوامر وخُلُق وصفات يتحلى بها العبد الصالح. إذا فعلينا كمسلمين تجاه القرآن أن نلزمه ونعاهده بالتلاوة والتدبر وبذل كل الجهد في تحصيل حسين الاتباع {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] وحق التلاوة هي الاتباع والعمل بما فيه وتحليله حلاله وتحريم حرامه كما قال ابن عباس.
إن القصد الأعظم من القرآن هو اتخاذه كمنهاج للمسلم وخلقا يتحلّى بها ويطبقها، وهو أيضا دستورا للمجتمع الإسلامي ككل، ولم يكن الهدف أبدا من تنزيله أن يكون تراتيلا يتغنّى بها الناس ويطّربون بصوت مؤديها، أو أن يُبذل الجهد في قراءته بمقامات موسيقية تجعله كالغناء أحيانا، ولا أيضا أن يهتم الناس بتعلم وحفظ ألفاظه فقط وترك العمل بما جاء به من أصول وتنظيمات وشرائع، فينشأ جيل من حفظة القرآن لا يدرون ما يقولون وترى سلوكياتهم خلاف ما تحفظ قلوبهم. وينبغي التنبيه على أن بعضا مما ذُكر سابقا مقبول ولكن المرفوض أن يكون الغاية من أخذ القرآن واتّباعه، فقط الالفاظ. وإهمال العمل بما فيه ومعرفة مراد الله وأحكامه فينا. فالذي تُبذل فيه الأعمار والأنفس هو العلم ثم ما يقتضيه من العمل والطاعة وذلك هو الغاية المنشودة.
أخيراً، إن الحديث عن الرسالة الأخيرة من الله وكلامه وخطابه الموجّه يطول، ولا تسعه صفحات معدودة أو كتاب، وإنما نعبّر عن بعض المواضيع التي تخدم الفكرة. والقصد أن نحث أنفسنا والمسلمين على تلاوة القرآن وتدبره كما أراد ربنا، وعسى الله أن ينفعنا وينفع بنا.