الحور العين.. هل هي للرجال في الجنة دون النساء؟ (2 من 2)

كنا نتسائل حيث وقفنا آخر مرة: ما دام القرآن قد فصل في نعيم الرجل والحور العين فلماذا لم يبدد على الأقل مخاوف الغيرة عند المرأة حيال ذلك بشكل صريح؟ ألِأنَ النساء كن معتادات على التعدد فيما مضى؟ وهاجس الغيرة هذا لم يكن ليطرق انتباههن كما يطرق انتباه النساء اليوم؟ أم أن “الحور العين” هن نساء الدنيا المؤمنات أنفسهن؟ وهل قصّر الإسلام في بشرى المرأة حقا إذا لم يكن قد قصّر في ثوابها؟

عُرفت المرأة الحوراء بجمالها عند العرب، وتغزلوا بها في أشعارهم، كما في الأمثلة التالية:

وتصدَّفَتْ حتَّى اسْتَبَتْكَ بواضِحٍ       صَلْتٍ كمُنْتَصِبِ الغَزَالِ الأَتْلَعِ

وبِمُقَلتَيْ حَوْرَاءَ تَحْسِبُ طَرْفَها          وَسْنَانَ حُرَّةِ مُسْتَهَلِّ الأَدْمُعُ 

[المفضليات، ٤٤]

إِنَ العُيُونَ الَتي فِي طَرفِهَا حَوَرٌ           قَـتَلْننا ثُـَّم لَمْ يُحيِينَ قَتلَانا     

[الحماسة البصرية، ٨٤]

وَعِنْدَنَا قَيِّنَةٌ بَيْضَاءُ ناعِمَة ٌ          مِثْلُ المَهَاةِ مِنَ الْحُورِ الْخَراعِيبِ   

تجري السّواكَ على غرٍّ مفلَّجةٍ       لم يَغذُها دَنسُ تحتَ الجلابيبِ

[المفضليات، ١٢٠]

أَوَانِسَ وُضَّحِ الأَجْيَادِ عِين ٍ      ترى مِنهُنَّ في المُقَلِ احوِرارا 

  كأنَّ حِجالَهنَّ أَوَتْ إليها            ظِبَاءُ الرَّمْلِ بَاشَرْنَ الْمَغَارَا     

[ديوان ذي الرمة، ١٣٧٣]

في القرآن الكريم  ورد ذكر “الحور” صراحةً في بضع آيات: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: ٢٠]، {وَحُورٌ عِين* كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: ٢٢-٢٣]، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: ٧٢].

وورد في آيات أخرى ما قد يشمل وصف “الحور العين” وسواهن من نساء الجنة: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * َفجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: ٣٥-٣٧]، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: ٣١-٣٣].

وما روي في الصحيحين من أحاديث لا يتطرق إلى “الحور” بهذا اللفظ صراحةً، إلا حديث “أول زمرة” الذي روي أحيانا بتخصيص الزوجات من “الحور العين” وأحيانا أخرى على الإطلاق من غير تخصيص:

حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه: “إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ” [البخاري ٣٢٤٥، مسلم ٢٨٣٤].

حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: “لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ، يَعْنِي سَوْطَهُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا” [البخاري، ٢٧٩٦].

حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه: “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضاً”. [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨].

يقول ابن قيم الجوزية في كتابه بعدما أورد جملة من أقوال المفسرين: “والحَوَر في العين: معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل منهما الحسن من الآخر. وعينٌ حوراء: إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى تكون مع حور عينها بيضاء لون الجسد. والعِيْنُ: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء. ورجل أعين: إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء، والجمع عِيْنٌ”.[حادي الأرواح، ٤٧٦]

بالنظر إلى الآيات الكريمة والأحاديث المروية في الصحيحين لا يظهر لنا ما يجزم بأن “الحور العين” جنس آخر في خلقهن، وأن لا حور عين (في وصفهن) من نساء الدنيا في الجنة، إلا أن حديثا رواه الإمام أحمد (22101)، والترمذي (1174)، وابن ماجة (2014)، وهو إن لم ينفِ صفة الحور العين بالإنسيات بعد إنشائهن في الجنة فهو على الأقل يؤكد أن هناك جنس آخر من النساء خلق في الجنة، وهن حينئذ “حور عين” أصلاً وليس إنشاءً بعد خلق آخر.. “لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا”.

 وإن سلمنا نحن النساء بوجود الحور العين كجنس آخر غير جنس الإنسيات إلا أن سؤال أيهن الأحسن والأعلى منزلة يظل يشغل الكثيرات.

في سورة الرحمن ذُكٍرَت الحور جزاءً لأصحاب الجنتين الأدنى صراحةً وذُكٍرَت “خَيِّرَاتٌ حِسَان” بحق أصحاب الجنتين الأُوَل، ولكن الأمر في الواقعة على خلاف ذلك إذ جاء ذكر الحور صراحةً جزاءً بحق “السابقون”، ثم جاءت {إنا أنشأناهن إنشاءً} عطفا على الفرش المرفوعة كناية عن النساء دون ذكر لفظ الحور صراحةً بحق “أصحاب اليمين”.

بعض المفسرين رجحوا أن الإنشاء الذي ورد في الآية سيكون في حق نساء الدنيا، وبعضهم قالوا يقصد بها الحور اللاتي خلقن في الجنة. يقول القرطبي: “إنا أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: هن لباس لكم. ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني آدم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء قال : منهن البكر والثيب”.  [تفسير القرطبي، ١٧/ ٢١٠].

وعندما يرد في سورة الرحمن لفظ “حور” في الجنتين الأدنى ولا يرد في الأُوَل يتبادر إلى الذهن أن نساء الدنيا المؤمنات قد يكن المقصودات في الأُوَل، وأنهن قد يكن بدليل ذلك أفضل من الحور اللاتي خلقن في الجنة لأصحاب الجنتين الأدنى؛ فهن أهل هذه الدرجات بفضل طاعتهن في الدنيا وهن اللاتي يجازى بهن أصحاب الجنتين الأعلى منزلة وفقاً لهذا الإستدلال، والحديث الذي رواه الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها في المعجم الكبير(23/ 367) يدعم هذا الاستدلال إلا أن العلماء ضعفوا هذا الحديث، وفي الوقت ذاته لم ترد أحاديث صحيحة تنفي ذلك أو تثبت عكسه.

يقول ابن كثير: “ثم قال: (حور مقصورات في الخيام)، وهناك قال: (فيهن قاصرات الطرف)، ولا شك أن التي قد قَصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات”. [تفسير ابن كثير، ٤/٢٨٠]

أما القرطبي فيقول: “وقال في الأوليين: فيهن قاصرات الطرف. قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدّل على أن المقصورات أعلى وأفضل”. [تفسير القرطبي، 17/ ١٨٩]

والجدير بالذكر كذلك أن بعض المفسرين قالوا بأنهن أربع جنات جميعا لمن خاف مقام ربه، وأن نعيمه حينئذ على صنفين من الجنان المختلفة في ألوان نعيمها، ومنهم الصحابي ابن عباس رضي الله عنه، وإن كان رأي أكثر المفسرين أن من خاف مقام ربه على مراتب وأن الجنتين الأوليين للمحسنين، والتي من دونهما لمن هم أدنى منهم مرتبة في الخوف من الله.

يقول القرطبي: “قوله تعالى: ومن دونهما جنتان أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط”.   [تفسير القرطبي، 17/ ١٨٣]

هذا الإبهام الذي يحيط بالمسألة قد يكون مقصودا لحكمة، وقد يعني أن من حور الجنة من قد تفوق نساء الدنيا بحسنها، وأن من نساء الدنيا كذلك من قد تفوق حور الجنة في حسنها، وأن الرجل قد يُجزى بكليهما في الوقت نفسه، وأن الأفضلية بالتالي متفاوتة حسب العمل في الدنيا.. عمل المرأة، وعمل الرجل الذي يستحق أن يُجزى بها.

ولكن ماذا إذا عرفنا أن الشهيد -الذي لا يفوق منزلته عند الله إلا الأنبياء- يُجزى باثنتين وسبعين من “الحور العين” في الأحاديث الصحيحة؟

“لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ” [الترمذي، ١٦٦٣]،[ابن ماجه، 2799] .

وعلى كل حال إن ذلك لا ينفي أن تكون تلك الحور من الإنسيات المنشآت في الجنة على الهيئة التي وردت في سورة الواقعة، ولا ينفي أن الشهيد قد يُجزى بإنسيات كذلك لو سلمنا بأن الاثنتين والسبعين ما هن إلا حور عين خُلقن في الجنة ولسن إنسيات من بعد الإنشاء في الجنة، ولا يعني بالضرورة أنهن أجمل وأعلى منزلة من الإنسيات (يعني كثرتهن لا تعني بالضرورة أنهن الأجمل والأحسن)، وتعدد الزوجات إلى هذا الحد ما دُمن “حور عين” في وصفهن سواء كن انسيات أُو غير ذلك هو منتهى النعيم بحق الشهيد هنا والله أعلم.

إن النظر إلى ظاهر النصوص نظرة صفراء يلقي بنا في غياهب التخبط عند أول شبهة، ولكن إذا ما أزلنا الغشاوة ونظرنا بعين المؤمن المتدبر الواثق بعدل الله الذي يطلب الحق ويرجو الفهم لا عين التهويل والتشنيع والتشنج، وجدنا أن نعيم الرجل كما أنه لا بد حاصل بتنعم المرأة فنعيمها كذلك حاصل بتنعمه، وإلا فهل يستطيع أحد أن يزعم بأن جمال المرأة مكافأة للرجل وحده؟! ماذا عن المرأة نفسها التي بدت بالإنشاء جميلة إلى ذاك الحد؟! أليس هذا نعيما في حقها؟! أويزعم أحد أن اللذة الجنسية حينئذ لذة خالصة للرجل لا تصيب المرأة منها شيئا؟!

قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]

يقول ابن قيم الجوزية في حادي الأرواح :”جمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله تعالى: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ) [البقرة: 35] ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه”.[حادي الأرواح، ٤٧٠]

فإذا كنا نتربص بأي حديث مهما بلغت درجة صحته لننطلق منه في إثارة الشبهات التي تدعي مبالغة الإسلام في تنعيم الرجل وبشرى تنعيمه ذاك على حساب المرأة، فلماذا لا نأخذ بباقي الأحاديث التي لا تختلف في مدى صحتها؟! فهناك الأحاديث التي تطرقت للصورة التي يُبعث عليها الرجل في الجنة “على حُسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد جرداً مرداً مكحلين”، أو لنكمل على الأقل قراءة تلك الأحاديث التي يظهر فيها الرجل غارقا في النعيم إلى آخرها، الى الجزء الذي يظهر فيه رضا المرأة وتنعمها؛ كالحديث الذي عرف بحديث الصور الطويل الذي تفرد بروايته إسماعيل بن رافع والذي جاء في قطعة منه: “كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إلي منك”، فإن لم يكن هذا ليدل على موت الغيرة في الجنة، أفلا يدل على مدى غبطة المرأة وسعادتها بنعيمها؟! وربما هي من النعيم بحيث لا تحس بمن يرادفها من الحور العين أو الإنسيات بدليل الآية: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ..} وبدليل الحديث الذي روي في الصحيحين والذي يتضح منه انتفاء أسباب الغيرة والغل: “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضا” ، وهناك الأحاديث التي تشير إلى تجدد العذرية وبالتالي خلود اللذة التامة التي تتجدد لكل من الرجل والمرأة على السواء بالإنشاء الذي لا ينتهي حينئذ.

إن الآيات الكريمة والأحاديث المروية في الصحيحين التي بشرت المؤمنين بعمومهم ذكرانا وإناثا بنعيم الجنة، وأصناف هذا النعيم ووجوهه التي لا تخطر على قلب بشر أكثر بكثير من تلك التي اختصت بذكر النعيم الجنسي على وجه خاص؛ النعيم المحسوب على الرجل وحده في أخلاق النسوية وأخلاق إنسان هذا العصر الذي ينتحل الطهورية دائما في مواجهة الإسلام!

إن الأوصاف الجسدية تشد انتباه الرجل(البصري بطبيعته) للمرأة، ولكنها في الوقت ذاته تشد انتباه المرأة نفسها أيضا للشعور بمدى الوضاءة والجمال وكل آثار النعيم الذي تُبعث عليه في الجنة، وكذلك يفعل ذكر الأوصاف الخُلقية اللطيفة وسيماء العذارى من قصر الطرف وقصر النفس وحسن التبعل والتحبب؛ وإذا عرفنا أن الإنسيات قد يكن مشمولات بتلك الأوصاف بفضل طاعتهن في الدنيا فالبشرى والترغيب حينئذ في حق المرأة والرجل كليهما. 

وإذا لم تجزم الأحاديث والآيات الكريمة بجنس الحور اللاتي يجازى بهن الرجال (إنسيات أو غيرهن) في الجنة كما سبق، ولم تجزم بعددهن كذلك، ولم تجزم بالأفضلية بينهن؛ ففي ذلك كله ابتلاء للرجل أيضا وليس للمرأة فحسب، وحقيقة ذلك لا تظهر إلا في الجنة وتبقى رهن العمل في الدنيا.. عمل المرأة، وعمل الرجل الذي يستحق أن يُجزى بها.

وإن انتفت الغيرة في الجنة وانتفت أسبابها إلا أنها موجودة في الدنيا وحاضرة بقوة لدى النساء؛ تدفعهن دائما نحو التساؤل: من الأحسن والأجمل والأعلى منزلة؟ نحن، أم “الحور العين” اللاتي خلقن في الجنة؟ أما المرأة الشقية فهي التي يُقعدها سخط التساؤل عن التدبر والعمل!

“حور عين”.. نعيم على قدر الابتلاء 

ولأن الافتتان بالنساء من أعظم الفتن التي تعترض الرجل في الدنيا؛ كان النعيم الذي يعد الله به الرجل في الجنة من جنس الفتنة التي ابتلاه بها في الدنيا، ولا عجب حينئذ أن تكون البشرى على قدر التكليف، وعلى قدر الابتلاء والجهاد الذي يبذله الرجل وهو يقهر شهوته العنيفة إزاء فتنة فتّاكة كتلك. 

يقول تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: ١٤]، يقول ابن كثير في الآية: “يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه عليه السلام قال: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء” [تفسير ابن كثير، ١/٣٥١] .  

وإن كان القرآن قد أسهب حقا في الحديث عن بشرى الرجل ونعيمه في الجنة في بضع آيات معدودات؛ فما نظن ذلك إلا لأن سعيه وجهاده وتكليفه في الدنيا أشد، بدليل تعين الشقاء على أبينا آدم (الرجل الأول) في خطاب الله له: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: ١١٧]، وأن هذا الإسهاب الذي تغبطه المرأة إياه إنما جاء لمواساته وتعزيته بثواب الآخرة وتثبيته. 

يقول القرطبي: “(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما) نهي؛ ومجازه: لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما من الجنة (فتشقى) يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ ولم يقل: فتشقيا لان المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكادّ عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص.

وقيل: الاخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله: “إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى” أي في الجنة “وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى” فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس، لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج” [تفسير القرطبي، ١١/٢٥٢- ٢٥٣].

 وفي تفسير البغوي: “(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) حواء، (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) يعني تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك، قال السدي: يعني الحرث والزرع والحصيد والطحن والخبز، وعن سعيد بن جبير: قال أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه، ولم يقل “فتشقيا” رجوعا به إلى آدم لأن تعبه أكثر فإن الرجل هو الساعي على زوجته، وقيل لأجل رؤوس الآي” [تفسير البغوي، ٣/ ٢٣٣] . 

قال الطبري: “وقال تعالى ذكره: (فتشقى) ولم يقل: فتشقيا، وقد قال: (فلا يخرجنكما) لأن ابتداء الخطاب من الله كان لآدم عليه السلام، فكان في إعلامه العقوبة على معصيته إياه، فيما نهاه عنه من أكل الشجرة الكفاية من ذكر المرأة، إذ كان معلوما أن حكمها في ذلك حكمه، كما قال: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) اجتزئ بمعرفة السامعين معناه، من ذكر فعل صاحبه” [جامع البيان، ١٦/٢٧٥-٢٧٦]؛ إذ لا شك أنه لا بد يطولها من الشقاء بشقاء زوجها، ويطولها شقاء تكليفها الخاص كامرأة، ولكن الشقاء هنا كأنما هو شقاء القوامة؛ شقاء الكدح والسعي ومكابدة الصعاب في الخارج، أما المرأة فكأنما خلقت للإيناس وإذهاب الحزن والتعب الذي يتركه هذا الكدح والشقاء بما تملك من رِقَّة في الإحساس، وهَبَّة في العاطفة، وعمق في الاحتواء، فإذا هي “حوّاء” في صيغة مبالغة إنما تدل على مدى احترافها بالفطرة ومهارتها في ذلك إن شاءت.. فكان تكليفها من جنس ما تطيق.

وبما أن الرجل كان الأولى بالشقاء في الدنيا فمن العدل أن يكون الأولى بالنعيم في الآخرة، والأولى ببشرى النعيم في الجنة، فما ضير المرأة حينئذ إذا حل نعيمها وتم وكمل بنعيمه؟ وما هو وجه اعتراضها؟ هل حسد وغيرة من الرجل فوق الغيرة عليه؟! 

بل ما ضير النسويات اللاتي يستكثرن على الشهيد الذي بذل روحه ودمه وباع نفسه لبارئها فضل الله عليه؟ أتظن إحداهن أنها ستكون من بين الاثنتين والسبعين اللاتي يجزى بهن راغمة؟! أم تظن أنها ستقدر على تحريض الحور اللاتي لم يخلقن إلا من أجل الرجل لقاء طاعته في الدنيا؟

أم هو حنقها حين تضطرها الحضارة الجاحدة والمجتمع الذي تنكر للشريعة -التي تضمن لها الحق في أن تكون امرأة فحسب- لتكابد أعباء الرجال التي لا تطيقها فوق أعبائها كامرأة؟

إن “الحضارة” التي تستدرجها بطُعم “المساواة” هي المسؤولة عن هذا الاختلال الذي وقعت في دوامته. إن حنقها حينئذ لا ينبغي أن ينصب على الإسلام إلا إذا تمكن دعاة “الحضارة” و”المساواة” من تضليلها وسلخها عن فطرتها وتقديم الإسلام على أنه السبب في كل ما تكابده؛ وأن الكفر به جملةً أو بالتجزئة هو السبيل إلى تحررها حينئذ.

يقول تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} [النساء: ٣٢]، والمفارقة هنا في أن سبب نزول الآية جاء جوابا على مطالبة الصحابيات بمساواتهن مع الرجال في التكليف لما علمنه من فضل هذا التكليف، ولكن أكثر النساء اللاتي يستكثرن اليوم فضل الله على الرجل المؤمن في الآخرة لا يشغلهن استيعاب فضل ذاك التكليف ولا يعترفن به؛ إنما تشغلهن المطالبة بمساواة الجزاء فقط! 

ومن رحمة الله وفضله أنه تعالى يجمع بين العبد الصالح وأهليه في الجنة لتقر عينه؛ فيصيبهم جزاء عمله الصالح وإن أبطأت بهم أعمالهم وكانوا أدنى منه منزلة في الجنة. قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]، وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: ٧٠].

 قال ابن كثير: “وقوله تعالى: (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانا من الله وإحسانا، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21] ” .[تفسير القرآن العظيم، ٤/٤٥١]، وقال ابن عاشور:” في هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح، أو خلف صالح، أو زوج صالح، ممن تحققت فيهم هذه الصِّلات، أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى” [التحرير والتنوير، 13/131]. 

فإذا كان الله تعالى قد وعد عباده رجالا ونساء بالرضى وبقرار الأعين في الجنة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ٩٧]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: ٤٠]، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض} [آل عمران: ١٩٥]، فمن المتضرر بعدئذ؟! 

لا أحد.. سوى إبليس الذي راهن على إغوائنا من أجل أن يحاجج الله تعالى في معصيته يوم القيامة.