الجمال بين القيمة والمقصد
“الجمال هو التناسب بين أجزاء الهيئات المركبة سواء أكان ذلك في الماديات أم في المعقولات، وفي الحقائق أم في الخيالات.” هكذا عرفه المنفلوطي في نظراته، فهو يقيم الجمال على التناسب والائتلاف سواء كان ذلك في الأمور المادية أم العقلية أم الحقيقية أم الخيالية، فلولا تناسب الكون في أرضه وسمائه، وتعاقب ليله ونهاره، وتآلف أجزائه ومكوناته، ما أخذ بالألباب وجالت في جماليته العيون والأبصار وسُطرت في سبيل وصفه الدواوين والأشعار، ولولا انتظام النغمات وقوة إحكامها من غير نشاز، ما استقرت في الأفئدة ومالت إليها الأنفس، ولَمَجّتها الأسماع ونفرت منها الطباع!
إن الجمال قيمة مطلقة من حيث حبّ الناس له والسعي إلى إدراكه، فمن ذا الذي يوثر الصحراء المقفرة على الجنة الوارفة، أو من ذا الذي يفضّل السفح المقفر على الروض الناظر، والمنظر القبيح على الحسن، اللهم إلا فاقد العقل مخروم الفطرة!
قيمة الجمال في المنظومة الاجتماعية
تعتري قيمة الجمال النسبية وتتنازعها الآراء عند تفعيلها، فليس كل ما تراه جميلًا يراه غيرك كذلك، ومردّ الأمر إلى الأذواق التي تتباين وتختلف عند بني البشر؛ ومن ثمّ فإن لهذه القيمة مقصدية عظمى إذا فُعّلت في المجتمع وأشيعت بين الناس، فبها تصاغ الأفكار وتؤطّر، وتساعد على وضعها في المسار الصحيح، وإذا عُدمت هذه القيمة في المنظومة الاجتماعية شاعت الأفكار الغريبة المستهجنة التي لا تنفع، “فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال يوحي للإنسان بأفكار، ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة”– كما يقول مالك بن نبي رحمه الله-.
حثّ الإسلام على التحلّي بالجمال وتطبيقها عمليًّا على أرض الواقع، دلّ على ذلك العديد من النصوص منها قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم :(إنّ الله جميل يحبّ الجمال) [أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي]، ونداءات الدعوة التي يرفعها الله في كتابه العزيز للتفكر في آيات الكون الجميل الضارب في المجهول {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وقوله: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6]
والأخلاق الفاضلة التي دعا إليها الإسلام ماهي إلا صورة من صور الجمال المعنوي الذي يسمو بالفرد ويضعه مواضع الرفعة، ولعظم هذه القيمة نجد الشيخ عبد الله دراز -رحمه الله- يجعلها محوراً من محاور القرآن الثلاث الرئيسة، والتي تتمثل في الحق أو العنصر الديني، والخير أو العنصر الأخلاقي، والجمال أو العنصر الأدبي)
مقاصد الجمال
كل ما تقدّم يبيّن أنّ لقيمة الجمال مكانة عالية في الإسلام، وذلك لعظم المقاصد التي تحقّقها، والآثار الإيجابيّة المترتبة عليها، ونكتفي بذكر مقصد واحد من هذه المقاصد التي تحقّقها هذه القيمة، وهو إشاعة مشاعر الحب واللطف بين الناس؛ فكل من اتّصف بالجمال ظاهرًا وباطنًا، وسعى إلى إدراكه في حياته اليومية، تراه مفعمًا بمشاعر الحب واللطف، ساعيًا إلى نثر عبقهما بين الناس، مبتعدًا جهد الاستطاعة عن مظاهر الكره والعنف.
إن الهدف من بيان مقصدية الجمال في الشريعة الإسلامية والحياة، هو التأكيد على ضرورة العودة إلى تلك القيم الجمالية، والوقوف على آثارها التي ستشيعها في أنفسنا ومن حولنا، خاصة مشاعر الحب واللطف، حيث تُمحا ندوب الكره والعنف التي ضيقت وقتّرت وجه الحياة وأزّمت العلاقة بين الأحياء، ولعلها تزيد من فرص الحياة الكريمة والسعيدة بكل ما فيها من فرح.
إن مما يحزن الإنسان أن يرى الجمال وسيلة لإشاعة الباطل المعاصر بزخرفة أقواله وإلباس بطلانه بأجمل الحلل الخادعة، بينما يكون الحق الواضح نافرًا مشوّهًا بعيدًا عن الحسن، حتى أصبحت مشاهد القتل والعنف والحروب وغلظة الخطاب وكآبة الحال هي ما يميز أخبار المسلمين، ويصنع صورتهم في العالم، مع أن حقيقة الصورة المعروضة للدين أبهى من واقعنا المعاصر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في نفسه وحياته على القمّة من الجمال، وقد كان لا يرضى أن تظهر شعيرة من شعائر الدين أمامه إلا على أجمل صورها، فبلال رضي الله عنه لم يكن صاحب الرؤيا في الأذان إلا أنه استحق الصعود والبلاغ؛ لأنه الأندى صوتًا والأجمل أداءً، وكان دحية الكلبي رضي الله عنه مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض ملوك الأرض لجمال هيئته وروعة بيانه.