التفكيكية وتعدد الأوجه الوظيفية في نمط المعمارية زها حديد

تُعَدّ المعمارية الراحلة زها حديد -رحمها الله- واحدةً من بين أكثر المعماريات تأثيراً في العمارة المعاصرة حول العالم. وبطبيعة الحال فإن الجدل يكثُر حول ما قدمته من تغييرٍ في مفهوم العمارة والفضاء المعاش والذي ما زال مثير للجدل والنقاش، حيث إن هناك فئة من المفكرين والمعماريين يرون أن أعمالها تفكيكية لا سياق محدد لها، في حين أن باحثين وناقدين آخرين يرون أن أعمالها حالمة للغاية وغير واقعية، بل إنها -إلى جانب ذلك- مكلفة اقتصادياً وأشبه بشراء تحفة فنية بدلاً من بناء مبنى.

هذا الكلام من ناحية عملية مقبول، إذ إن الدول بالفعل تتباهى بوجود مبنىً من تصميم معماري عالمي –كأعمال زها حديد- وكأنها تحفة فنية صُمّمَت لتعرض للناس، إلى جانب ذلك يرى البعض أن أعمالها مقتصرة على الجانب الجمالي من التصميم دون اعتبار كبير للوظيفة من المبنى أو الجانب الاقتصادي، ولا حتى التاريخ الخاص بالمكان والتقاليد والثقافة الخاصة بموقع المبنى وما يحيطه من سياق.

المصدر: aletihadpress.com

 

هل عند زها حديد رؤيا منعشة ومجردة أم رؤيا أيديولوجية؟

وقد تكون بعض هذه الدعاوى صحيحة وقد تكون مقبولة وصالحة للنقاش، إلا أنه من الجيد دراسة توجهات زها حديد الفكرية والفنية ومعرفة سبب اتجاهها لهذه التصاميم.

في مقابلة لها مع الإعلامي ريكاردو كرم -وكانت تفضل فيها التكلم بالانجليزية مع أنها تفهم اللغة العربية- كانت توضح أنها لا تتقيد بالتقاليد الموروثة. (1)، إلا أن من يدرس كلامها وأعمالها يدرك أن توجهها ليس تفكيكيًّا بالكامل، ومن ثمّ فإنه من غير الإنصاف وضع كل أفكارها في خانة التفكيكية العبثية، نظرًا لكون أعمالها التفكيكية موضوعة لهدف وغاية ووظيفة معينة وليست أعمالاً عبثية لا معنى لها، كما سنرى في هذا المقال، إلى جانب ذلك فإن بعض آرائها المعمارية تعد منطقيّةً للغاية وتفتح الأذهان لطرق جديدة في التفكير الهندسي.

ينبغي علينا -قبل الشعور بالتهديد من التفكيك- تعريف كل من “التقليدي”  وتبيين معنى “الإرث الثقافي” وأهميته وأي جزء منه يستحق الاحتفاظ، قبل البدء بتصنيف الأفكار ما بين (تقليدي) و(غير تقليدي).

ربما يمكننا الانطلاق من تحديد (ما هي الثقافة) وما هو الإرث الثقافي، قبل الغوص في ضرورة تقديس التراث وعدم السماح بمساسه.

 

مطار بكين داشينغ الدولي، المصدر: architizer.com

 

ردة الفعل الفكرية للمعماريين فيما بعد الحداثة

لقد كان توجه زها حديد للنزعة التفكيكية طبيعياً في الوقت والظروف التي كانت فيها؛ إذ إنه مع مشارفة تيار الحداثة Modernism على الأفول، ومحاولة بعض المعماريين إعادة إحيائها، أدركت زها حديد مع معلميها ومعماريين آخرين أن تاريخ الفن الحديث توقف عن النمو، فقالت: لقد أحبِطَ تاريخ الحداثة

(The History of Modernism was aborted).  وبالتالي فإنه كان لا بد من القيام بقفزة تالية وإنجاز أعمال معمارية تفسّر الفن الهندسي وغيره من الأمور بطريقة مختلفة، إذ إن تحدي الواقع يتطلب إعادة ابتكار الرسوم والتصورات والتكنولوجيا وتجارب الفضاء المعاش، وكل هذه الخطوات والتوجهات كانت لتطوير منهج ومشروع نظري لفهم الواقع وفهم العصر بشكل مخالف لما كانت عليه تيارات الحداثة.

من المبادئ المهمة لإيجاد معنى حقيقي ومؤثر للمكان، ألّا يكون مبنيًّا على الرتابة المتكررة التي تم اعتمادها في العمارة الحديثة، وبالتالي فإن فكرة التجاور Juxtaposition كانت في غاية الأهمية لتوليد طرق جديدة لفهم الفضاء المعاش وتغيير نمط وسلوك الناس في تصورهم للمكان، من خلال كسر النمط المعتاد ودمج القديم بالحديث وبالتالي إنشاء تصادم كبير وهدم للمقاييس عبر التفكيك.

أي أن التفكيك كان لهدف محدد، وهو إيجاد معنى وتجربة جديدة مختلفة عن النمطية الصناعية التي خلفتها العمارة الحداثية الوظيفية.

من المثير للاهتمام أن في تصميم المبنى الواحد للمعمارية زها حديد، تكون طوابق المبنى مختلفة عن بعضها البعض، والتالي فإن وجود طوابق عديدة في المبنى الواحد لا يعني أن التجربة المعاشة ستكون نمطية في كل الطوابق، وهذا بالضبط هو عنصر المفاجأة في إيجاد معاني ووظائف جديدة للمكان التي يستشعرها المستخدم ويدرك أن المبنى –وحتى الوجود- لا يقتصر على وظائف جامدة محددة مسبقاً.

ME Dubai hotel, the Opus, Dubai, UAE. Source: architizer.com

رأي زها حديد عن العمارة الإسلامية

من الجدير بالاهتمام أن زها قد سُئلت في مقابلة معها عن رأيها في العمارة الإسلامية -بما أنها عراقية الأصل- وقد يتصور للكثيرين أنها بعيدة كل البعد عن الهندسة المعمارية الإسلامية الشرقية التقليدية، إلا أنه كان مهمًّا فهم رؤيتها لهذا الفن الهندسي.

تقول المعمارية: إنها ليست منفصلة عنه كثيراً؛ لأن الكثير من المهندسين العصريين تأثروا بالهندسة المعمارية الإسلامية. وأوضحت أنها ليست متأثرة بطريقة واضحة وشكلية بفن الخط والكتابة إلا أنه لا شك أن فكرة سلاسة الخط وسيولته موجود في رسوماتها وتصاميمها. حيث إنها تستلهم الأفكار التجريدية والتنظيمية بدلاً من النتائج الشكلية. وبالتالي فثمة تأثير من العمارة الإسلامية في أعمالها، فهي توضح أنها تتعلم وتتأثر بطريقة واستراتيجية التصميم وتنظيم المساحات بدلاً من التعلم والاستلهام مما تسميه بـ”الهندسة المعمارية الإسلامية الفولوكلورية والتقليدية”.

الهندسة تعكس لغة العصر

تكمل حديثها وتقول إن الهندسة تعكس العصر الذي نعيش فيه الآن، ونحن الآن لا نعيش بالطريقة ذاتها التي كنا نعيش فيها قبل 3 آلاف سنة. تنبّه مُحاور المقابلة لهذا الكلام وقال لها “لكن هذا هو إرثنا”، إلا أن المعمارية كانت ثابتة في تأكيد أن الحفاظ على التراث يكون عند الضرورة وبوجود وظيفة معينة له، وهي ليست مقتنعة بالفلوكلورية وربطها بالطراز الإسلامي. وتؤكد ذلك وتقول: “أنا آسفة لكن إن لم يكن كلامي صحيحاً فإن هذا يعني أنه لا يمكن للعالم الإسلامي التقدم لأنه متمسك بتراثه، لا يمكن الجمع بين الإرث والحداثة إلا من خلال استخدام أفكار التراث في تنظيم المساحات الحديثة”.

Niederhafen River Promenade, Hamburg, Germany. Source: architizer.com. Photographer: ©PietNiemann. Source: architonic.com

 

أما عن رأيها بالمعماريين العرب الذين يحاولون الدمج بين الحداثة والتراث، مثل المعماري رفعت جادرجي و د. راسم بدران وحسن فتحي وعاصم سلام، فقد أشادت أنها قد تعجب ببعض أعمالهم إلا أن انتقادها هو لتوجههم الفكري وليس لأعمالهم بشكل تقني، فقد يحترف أحدهم في إعادة تصميم التراث لكن مع ذلك فإن النقد هو ليس للعمل بعينه بل للتوجه. فليس كل ما هو قديم يعني أنه جيد في النهاية، وتظن أن اتجاه الكثير من المعماريين في هذا العمل فظيع ومريع.

نقد توجهات العمارة الإسلامية

لتأكيد وجهة نظرها بطريقة موضوعية ولتثبت أنها ليست معادية للطراز الإسلامي وأنها تحاول توضيح طريقة ومنهج فكري لإنقاذ الطراز الإسلامي من حصره بشكل ونمط معين، تقول: إنه من الجيد التعلم من التراث في فهم كيفية تنظيم المدينة وكيفية العيش وفقاً لطرق واستراتيجية التنظيم، وحتى تتكون أفكار ملهمة ذات معنى مناسب للعصر وناجحة لا تناقض فيها.

ترى أن هذا التوجه أفضل من جعل الإرث أداة للتزيين، وذلك لئلا تبنى ناطحات سحاب عليها أقواس خارجية بهدف تسمية ذلك بـ”الطراز الإسلامي”، إذ إنها ترى أنه لا يمكن حصر الطراز الإسلامي بأشكال معينة وإن كانت بعض الأشكال المعهودة جزءًا من الطراز بصورة عامة، وذلك بهدف التجديد وعدم الجمود، إذ ليس الهدف هو التخلص من الجماليات أو التخلص من الطراز الموروث، وإنما إعادة النظر في الاجتهاد البشري المعماري الذي فرضت أشكالاً كبيرة منه الأحوال التاريخية والبشرية ووضعته موضع التقديس.

CityLife Shopping District, Milan, Italy. Source: architizer.com

في ختام المطاف، فإن اجتهادات زها قد يوافقها البعض، ومن الطبيعي أن ينتقد آراءها آخرون، فهي تقول وجهة نظرها وهي قابلة للأخذ والترك. إلا أنها تفتح آفاق للنظر بكيفية ربط تصورات الإنسان الحديث بالمكان وكيفية إنشاء معنى للوجود وتوضح الطرق التي ينشأ بها هذا المعنى، وتقربه في الوقت ذاته لفهم المسلم المعاصر بطريقة تجعله يتقبل تراثه ويحترمه، مع حرصها على ألّا يحصره بأنماط أو أشكال وأزمان محددة.


الإحالات:

(1) مقابلة في برنامج Zaha Hadid | وراء الوجوه – مقابلة مع زها حديد: https://www.youtube.com/watch?v=Av__gx3i8vc&t=1817s