1

التربية الإيمانية للنفس البشرية

تزكية النفس، الأمر الذي لا بدّ منه، فهي الطهارة والنقاء من العيوب التي تُدنِّسها، وهذا ما أراده الله الحكيم من المسلم، حينما حضَّ على تزكية النفس في غير ما آية، كقوله سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، [الشمس: 6-10] فقد أقسم القرآن الكريم بأحد عشر قَسَماً على هذه النفس البشرية التي هي أعجب مخلوقات الله تعالى، وأشار إلى أن تزكيتها أو تدنيسها بيد العبد سعياً وكسباً، فمدح المزكين لها، وذم المُدسِّسين لها، فعلى العبد أن يسعى جاهداً لتزكية نفسه بما يرقِّيها للمعالي التي تنجيه في الدنيا والآخرة، إذ لولا أن العبد يقدر على ذلك بتوفيق الله تعالى لما أسند الفلاح بتزكيتها إليه.

حكاية التزكية

حقيقةُ البَدء بتربية النفس الإنسانية صعبة، فهي أمام طريقين: إما الفلاح أو الذبول في طريق الفساد، الخطوة التي تخطوها -أيها الإنسان- هي أكبر مسار نحو سلاح تغزوه قوة أو تملأه ضعفًا لتسقط عن حربة الكفاح، فإن الحياة مريرةٌ وتتطلب منك الجهد المضاعف لِتخطي الأشواك التي قد تعتري ما يروي روحك لينعشها ويعينها على الاستمرار في مواجهة الشرور التي قد تواجهها، ولكنك تبقى عاجزًا أمام هواجس النفس لأنك سلّمتها لهواها ومغريات الدنيا وملذاتها ،حيث بات لا مجال لرفض ما تطلبه نفسك منك، وعاقبة هذا كما قال تعالى {قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10].

إن النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادته -كما ذكر الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، والنفس هي الإنسان حقيقةً، ففي صلاحها صلاحه، وفي انحرافها هلاكه، فإن النفس هي مصدر كل ما يخرج من الإنسان من فعل أو شعور، لذلك فإن عامل التربية لهذه النفس مهم جدًّا في ضبط أفعالها وأقوالها، وإبعادها عمّا يوقعها في المذموم وقبيح الأخلاق.

ومن منطلق تزكية النفس، فإن التربية الإيمانية هي الحصن المنيع والقاعدة الحامية في رفع النفس إلى المعالي وجعلها بذرة صلاح وخير أينما حلّت ورحلت، حيث إن المؤمن التقيّ في القرآن هو المنغمس في العمل الصالح الذي هو أساس تزكية النفس وطهارتها، قال تعالى {فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا} [الكهف: 110].

صفات التربية الإيمانية

لا بد أن النفس تتأرجح يمينًا ويسارًا، فهي بحاجة إلى التنقية اليومية والمجاهدة والصبر بعدم مجاراة الهوى إلى ما يتعارض مع القيم والمبادئ التي أوردها كتاب الله واستفاضت فيها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما هي صفات التربية الإيمانية للنفس.

إن أولى تلك الصفات هي تحمُّل المسؤولية؛ حيث إن الاعتماد على النفس في تحمّل تبعات أعمالها يجعلها أبعد عن الانسياق واتباع من هبّ ودبّ، فالاتباع الأعمى –بنظرةٍ إجمالية- لا يحقّق سوى الاتكال والتهاون مع النفس فيما يفسد صلاح دنياها وفلاحها في الآخرة.

بالرغم من ذلك فإن القرآن يحث المؤمنين على التوسّط وعدم الإسراف في ادعاء تحمّل المسؤولية، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105]، فالإنسان مطالب بتوظيف طاقاته الفكرية والاجتماعية والمالية في صلاح الأمة وخدمة الإسلام إلا أن الفشل –بعد أداء ذلك- يجب دراسته من جوانب كثيرة وليس من جانب لوم النفس وتحميلها المسؤولية وحدها.

أما ثاني تلك المبادئ فهو التحلي بالأخلاق الحميدة، فالنفس حين تلتزم بالقيم والأخلاق الفاضلة فإن ذلك يسهم في تزكية النفس وتطهيرها عما ينافي الفطرة السليمة، والمراد من ذلك تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو تُرِك المرء عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد.

في ختام هذه المبادئ لا بد أن تكون النفس واثقة بعزتها ولا يكون ذلك إلا بالافتخار للانتماء للإسلام، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقين: 8]، وقد نُقِل عن عمر الفاروق –رضي الله عنه-قوله: “كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله” وينبغي التنبه إلى أن عزة النفس لا تعني الإعجاب بالحسب والنسب والافتخار بسفاسف الأمور وأمراض القلوب، وإنما فقط بالانتماء للدين الذي هو الرفعة والعزة والكرامة للإنسان أينما وجد.

شوائب ومنغّصات

تتعرض النفس للعديد من الأمراض -يطلق عليها أمراض القلوب- مما ينبغي الحذر منه والبعد عنه مثل الرياء الذي حذر القرآن منه فقال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء:142] وكالحسد الذي قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] والكبر الذي قال تعالى عنه {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] وغير ذلك من الأمراض المختلفة التي حذر منها القرآن والتي تمزق إيمان القلب البشري ورقته حين تتغلغل فيه وتؤدي بالإنسان إلى الانحراف عن الحق وسوء الأخلاق، وضعف النفس أمام الشهوات والمحرمات.

يجب على كلٍّ منا السعي إلى فهم ذاته وما يتخللها من هشاشة وضعف مهما صغرت؛ حيث إنها مع صغرها تثقل كاهل الإنسان وتوصله إلى الحضيض بسبب تراكمات ليست في الحسبان، وبذلك يجب السعي إلى التخلص من العثرات المحطمة وتجنبها قدر الإمكان، وبناء أرضية توفر للقلب الحماية من مسببات الأمراض النفسية أو القلبية.

قال عبد الله البردوني

ما أجهل الإنسان يضني بعضه                            بعضًا ويشكو كلّ ما يضنيه

ويظنّ أن عدوّه في غيره                           وعدوه يمسي ويضحي فيه

إن الالتزام بالأخلاق أمر لا بد منه للعناية بالنفس وعدم إهمالها، وهذا هو الطريق الذي اهتم به القرآن وحضّ المؤمن بالله عليه، فهو سبيل الاتزان والالتزام بالحق.