الإنسان بين السوبر واللامبالاة!
يتسارع عصرنا بكل تفاصيله، ولا يبدو أننا سنرى مخرجًا من أفكار هذا العصر إلا بالعودة للأصول، في ظل السعي المرهق للوصول إلى الإنسان “الأعلى” أو السوبر، الذي يستنفد جهده وروحه..
وهنا قد يسأل سائل: هل السعي للكمال خسارة؟!
سنعرّج على جواب هذا السؤال، عندما سنحلل أسباب السباق اللاهث، وطريقة ترتيب الأولويات، إلا أننا الآن سنقف عند جذور هذه الفكرة وتطوراتها، والمقابل لها في دين الإسلام.
نيتشه وفلسفة السوبرمان
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، هو أحد ثلاثة فلاسفة تأثروا بفلسفة كانط، كان قد طالب بنوع جديد من الناس، وهذا النوع هو الإنسان الأعلى أو الإنسان المتفوق (Superman) أو الأوبامنش.

نيتشه
يذكر نيتشه في كتابه (هكذا تكلّم زرادشت) مقتبسات وشذرات فكرية تجسد دعوة رجل الدين الفارسي زرادشت الذي نزل يدعو الناس إلى الإنسان الأعلى (Superman)، أي الأرقى والأشجع من الإنسان الحالي والذي عايشه نيتشه.
عمومًا فالكتاب عبارة عن رواية أدبية بث فيها نيتشه أفكاره على لسان زرادشت، وقد اشتهر عن نيتشه أنه أعلن إلحاده، وأنه سعى بعد ذلك لإيجاد البديل عن الإيمان بالله، فجاء بفكرة الإيمان بالإنسان الكامل “السوبرمان” وجعلِه إلهاً جديداً للإنسانية.
يقدّم نيتشه في كتابه فكرة أنّ على الإنسان أن يكون شجاعاً وأن يعتاد الاعتماد على نفسه في كل الأمور مستبعدًا بذلك فكرة التوكّل الكلّيّة على الله، إذ ليس ثمة أحد قادر على مساعدة الإنسان لنفسه إلا نفسه، ومن ثمّ يدعوه لقطع الاعتماد على الله.
إن الإنسان بنظر نيتشه يجب أن يكون أشبه بشخص خارق ضدّ الصدمات من الناحية النفسية، إذ بنظره ليس بالضرورة أن يكون الأوبامنش أو السوبرمان قويًا جسديًا ولا ذكيًّا للغاية، ولكن من المفترض أن يكون السوبرمان متفوقًا نفسيًا، بأن يتمتع بنفسية غير قابلة للكسر.
يرى نيتشه أنّ واجب الحضارة هو خلق إنسان جديد، وهو الإنسان الأعلى (Superman)، أي الإنسان الصلب القوي والشجاع الذكي، والمستقل أخلاقياً عن القيم الدينية القديمة.
أين الخلل؟
ليس من المستغرب أن يتبادر إلى الذهن تساؤل عن مكمن الخطأ في هذه النظرية التي قدّمها نيتشه، ولربما نجد أحدًا يوائم بين هذه النظرية وبين السعي للكمال، ألا يتفق مع المفهوم الذي طالبَنا به شرعنا الحنيف بالسعي للكمال والوصول لنسخة أفضل منّا؟ ألا يتفق هذا الأمر مع المقولة المنسوبة للشيخ محمد الغزالي: (لا تقل اللهمّ خفّف حِمْلي، ولكن قل اللهمّ قوّ ظهري)؟!
إلا أن الجواب على ذلك، هو أنّ شرعنا الحنيف يدعونا إلى الرحلة نحو الكمال، حيث تستوجب منا الاعتماد على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: علاقة الإنسان بخالقه عزّ وجلّ، أما الركيزة الثانية: علاقة الإنسان بنفسه وبما حوله.
وقد كان هناك محاولات على مرّ العصور بالانسلاخ من أحد هاتين الركيزتين إلا أنّ من حاول حظي بمسيرة ونتيجة ناقصة.
ولا بدّ لمن فَقِهَ الركيزة الأولى وامتثَلَ لها على نحو صحيح أن تتولّد عنده الركيزة الثانية وفق منهج قويم.

محمد الغزالي
وبالمقابل فإن في كلمة الشيخ الغزالي آنفة الذكر رسالة لطيفة لصاحب الهدف وهي أنّ الله لا يضع الثمار على غصن ضعيف، وإنما يضع الثمار على شجرة يؤمَل منها الخير، لذلك كان هذا القول دعوة للجدّ والمثابرة لا لجلد الذات ولا للسعي الماديّ المتجرّد من الروح، وهنا تكمن المفارقة بين نظرية نيتشه وهذا القول على سبيل المثال.
فنيتشه يدعو إلى شخص لا يعاني ولا يتألم، فهو يجرّد الإنسان من مشاعره ويجعله حائطاً أصمّ لا يُرى إلا التفوق، رغم أنّ التفوق يكمن في الرحلة ذاتها لا في الوصول، والتفوق يكمن بالحفاظ على التوازن بين الروح والجسد، فلا قيمة لأهداف خالية من الروح، ولا مدد لمركب لم يكن اللهُ وجهته الأساسية.
بين الإنسان السوبر والإنسان المسلم
إن جئنا لأشرف خلق الله سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإننا سنجده خلال رحلة الدعوة قد واجه الكثير من المحن والصعوبات، ولكن النقطة الأساسية هنا والتي يجب أن نبني عليها الاتجاه هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم ينطوِ على ذاته ويكفّ عن المحاولة، كما أنه في الوقت ذاته لم يطالِب من حولَه بأن يتجرّدوا من شعورهم في سبيل الوصول للتفوّق الذي يؤذي الروح، بل جعل الروح والعلاقة مع الله تعالى هي الأساس الذي تُبنى عليه ولادة الإنسان المتحلّي بالقيم والفضائل ومعمر الأرض بالخيرات.
فكان أن ربط النبيّ صلّى الله عليه وسلّم همّة الرعيل الأوّل بعزيمة ربّانية، لأنّ الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب يصيبهم الخور كثيرًا، وتجدهم كثيرًا ما يحتاجون إلى بداية عزم جديد، وقد تنكسر منهم العزائم، وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد تعمَّد أن يربط إرادة أمته وعزائمهم بربهم، فكان اعتمادهم عليه سبحانه هو مصدر قوتهم، وتوكّلهم على قدرته هو المثبِّت لعزائمهم، فيقول في حديثه صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله يحبّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسَافَها) [حديث صحيح: الصحيح الجامع]
بينما ألقى نيتشه على الإنسان ثقله الماديّ وجرّده من الجانب الرّوحي، مع العلم أنّ الجانب الرّوحي هو البراق الذي يعرج بالإنسان نحو سماوات الفضيلة والفهم والإدراك.
ونجد هذا المعنى الأنقى، والتوجيه الأرقى جليّاً في محادثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع الصحابي خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه، عندما جاء خبّاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يشتكي من أذى قريش لهم قبل الهجرة قال خبّاب رضي الله عنه: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري].
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لم يطالب خبّاب بأن يكون سوبرمان، ولم يقل له أطلق العملاق الذي في داخلك، ولم يستغرب ضعفه وضعف المسلمين، ولم ينهره لبثّه الشكوى! وإنّما مرّر له مراده بتذكيره بمن لاقى الأشدّ فصبر.
لقد راعى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم جانب الضعف الإنساني وطالبهم بالصبر، ثمّ طمأن قلب خباب بأن ذكّره بالرّابط الأهمّ وهو الله تعالى؛ إذ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر) فربطه بالله ولم يربط إتمام الأمر على عاتق الأفراد، فالمطلوب من الإنسان السعي والتوكّل على الله تعالى.