إلحاد بلا ملحدين

كثيرًا ما يقول أحدهم إنه (ملحد)، ولكن قليلًا من الناس من يعرف حقيقة هذه الكلمة ومعنى كونه ملحدًا! أي أن أغلب هؤلاء الناس يفرح بكلمة ويرددها ولكنه لا يعلم عن معاناها شيء، ويخطئ من يظن أن الإلحاد هو إنكار وجود إله فحسب، فهذ نظرة اختزالية للإلحاد، وهي أشبه بمن قيل له إن الشركة التي يعمل بها قد تم إغلاقها، ليتعامل مع العبارة على أنها مجرد جملة مفيدة وانتهت، دون النظر في عواقبها!

الإلحاد ودوامة العدمية

إن الإلحاد الذي يبدأ بإنكار الوجود الإلهي يدفع الإنسان في دوامات العدمية بكل ما فيها من شؤم وسواد، والملحد المخلص لإلحاده هو الذي يعلن كونه ملحدًا ثم تأخذه الحياة يمنة ويسرة وتقتله الكآبة، فلا يجد بدًّا من إنهاء حياته التي لا معنى لها، فينتحر بعد فترة وجيزة.

إن الإنسان يبحث عن معنى لحياته بفطرته، وكثيرًا ما نرى من لا أهداف له على المستوى الشخصي من طموح في العمل أو الزواج أو غير ذلك فيعاني نفسيّا من الاضطرابات والتي أولها فقدان الثقة بالنفس؛ فالإنسان مجبول على البحث عن المعنى والاتجاه، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش في حياته بدون أهداف تثير شغفه وحماسه، فكيف لإنسان أن يعيش حياة كاملة مع يقينه أن الكون بأسره هو عبارة عن ضجيج عبثي بلا هدف وبلا قصد وبلا غاية!

إن فقدان المعنى للوجود بأسره يقتل أي معنى قد يعيش الإنسان من أجله، وحينها يصبح الإنسان موهومًا بالمعنى مع إقراره في الوقت ذاته بأن الكون لا معنى له، وهو أسوأ نوع من أنواع الكذب على الذات، ولعلنا نقارب هذا القول بمثال آخر، كمدمن المخدرات الذي يشتهي عالمًا وهميًّا من اللذة الوقتية، ولكنه يبقى على يقين أن اللذة الوهمية تبقى وهمًا، ولكن الملحد الذي يعلم أن الكون بأسره بلا معنى ثم يحاول أن يخدع نفسه بوجود معنىً ما، فهو يخدع نفسه بنفسه، ويتهرب من مواجهة الكابوس المزعج، ويؤثر الممتع على الحق المر، فالملحد لا ينزل نفسه منزلة مدمن المخدرات، بل إنه يسلك ما هو أضل سبيلًا بعدم تفريقه بين الوهم والحقيقة! فكيف لإنسان أن يعيش في عالم بلا معنى إذا كان عاجزًا عن أن يعيش حياته الشخصية بلا معنى. وكيف لإنسان أن يحيى ولا معنى لحياته والبحث عن معنى الحياة مجبول في فطرته؟!

ومن المعلوم أن الإنسان يبحث عن قيمته دائمًا، ومن أجل ذلك نرى بعض الناس يسير في طريق لا يحبه ليحصّل احترام الآخرين ويشعر بقيمة ذاته؛ إذ إن شعور المرء بقيمته وأهميته احتياج نفسي دفين، وأغلب الأطفال الذين لم يتلقوا اهتمامًا معنويًّا من أهليهم غالبًا ما يعيشون حياتهم بنفوس مشوهة، وتتركز أهدافهم على إثبات النفس إما بالتكبر المفرط وجنون العظمة، أو من خلال لفت الانتباه لتسوّل المدح والثناء!

ضع هذا إلى جانب الإلحاد الذي يقول لك إنك مجرد نسخة كيميائية لا قيمة لها نشأت عن طريق تكاثر الصدف العمياء، أي إنك كائن لم يكن مخططًا لمجيئك يوما ما؛ ومن ثم فإن البحث عن قيمتك وحقوقك نوع من أنواع التطفل والكوميديا السوداء!

إن الإلحاد يقول لك إن قتل بعض جراثيم بصابون لا يفرق عن قتل مليارات الشعوب بضغطة زر في قنبلة نووية، إذ ما الفرق بين الجراثيم والبشر والكلّ سواء، مجرد مسوخ كيميائية لا تختلف عن الجماد الميت، فكلها لم يكن مخطط لوجودها!

فكيف لملحد أن يشرب تلك الأفكار التي يمليها عليه إلحاده ثم يحاول أن يبحث عن قيمته في نشر كتاب يكتبه أو بحصوله على شهادة دكتوراه مثلاً؟!. إذ إن ذلك لن يغني عنه من حثالته العشوائية شيئا -بحسب زعمه-. وكيف لإنسان مفطور على البحث عن قيمته أن يتعايش مع الفلسفة العدمية التي تساويه بالجراثيم والجماد!

الإنسان وحب الحياة

إن الإنسان بطبعه يبحث عن الاستمرار لا عن الفناء، وليس سبب ذلك أن الإنسان يكره الموت أو يحب الحياة، بل إن السبب العميق وراء ذلك أن نفسية الإنسان مجبولة على التعلق بالأبدية، والموت يتناقض مع تلك الأبدية التي يحبها الإنسان؛ لأنه لا يسأم من دعاء الخير. فتصارع الإنسان مع الموت هو صراع مع الفناء وانتهاء أحلام الخلود، فمن المحال أن نعثر على من ينتحر لأنه وصل لمرحلة من الرضا تجعله يزهد في الحياة ويزهد في شرب الماء وتنفس الهواء ثم يقرر أن يقضي على حياته بدافع الشبع عن طلب المزيد، فالإنسان لا يسأم من دعاء الخير وطلبه، وهو دائما يطلب شيئًا ما.

يطلب الإنسان على سبيل المثال في الطفولة الاهتمام، وفي الشباب الزواج والمال، وفي الكهولة الوصول لأعلى المناصب، وفي الشيخوخة ينتظر نتائج سعيه وحصاد عمره، وهكذا فالإنسان في طلب مستمر، فلا عجب أن يكون الانتحار ناجمًا عن اضطراب نفسي ما، ولكن يستحيل أن ينتحر السوي نفسيًّا بدافع الرضا. لأن الإنسان لا يملأ عينيه إلا الخلود الأبدي، والإلحاد يقول إن الأبدية وهم، وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولذلك نرى الملاحدة ورافضي الأديان في تصارع دائم مع الشيخوخة والموت؛ لأن الموت بالنسبة لهم هو التهديد الأول بانتهاء كل شيء يملكونه؛ لأن تلك الدنيا – بالنسبة لهم – هي كل شيء يملكونه، ومبلغهم من العلم!

فكيف لإنسان فطر على عشق الأبدية والتصارع مع الفناء أن يعيش حياته وفي قرارة نفسه أن الموت فناء والأبدية وهم؟. ولو كان الموت هو الفناء المحتوم لتتحول كل ذكريات الإنسان إلى ومضة في التاريخ لن تتذكرها الأبدية، فما معنى الحياة؟ وما الدافع الذي قد يحرك الإنسان، وما الشيء الذي قد يستحق وقته وجهده وتضحيته؟

الإلحاد وبراءة الطفولة

يولد الإنسان نقيًّا صافي الروح، بغض النظر عن البيئة التي ولد فيها، مما يظهر بوضوح في براءة الأطفال؛ حيث إن كل أطفال العالم أبرياء بغض النظر عن دين آبائهم أو طبائع مجتمعاتهم، وذلك النقاء الفطري هو ما يدفع الإنسان إلى البحث عن الأخلاق، وهذا قريب من سبب نشأة المدارس الفلسفية في نظرية الأخلاق. فحتى من يترك دينه ليجول في فضاء اللادينية يستمر في البحث عن الأخلاق وقد يتحلى بالكثير من الأخلاق الحسنة. ولكن هل الإلحاد يعطي مساحة للملحد أن يكون له أخلاق أصلًا؟ وهل الإلحاد يسمح للملحد أن تكون له مرجعية أخلاقية لتكون هي المعيار الذي يحدد أخلاقه–بغض النظر عن كون الملحد خلوقا أم لا–؟

إن الإجابة ببساطة هي: لا، بل لعلها أقرب للاستحالة! لأن الإلحاد يعرف الوجود محصورًا في المادة فقط، ولا فرق بين خير وشر، بل –في نظر الإلحاد– الخير والشر هي معانٍ تم اختراعها من قبل الإنسان. لكن لا معنى لها في عالم مكون من كائنات حية تجول على كوكب، وما الكوكب والكائنات الحية إلا ذرات كيميائية تتناثر على ضوء قواعد الفيزياء. فلا فرق بين موت وحياة، أو الحرب والسلام، أو الظلم والعدل، أو الفساد والصلاح، أو الخير والشر؛ لأن المادة لا علاقة لها بالمعاني المعنوية. وحصر الوجود كله في نطاق المادة يستلزم ضرورة السخرية من كل المتكلمين في الأخلاق، إذ –حينها– ستكون الأخلاق مجرد وهم كبير! فما المشكلة أن يقتل إنسان 99% من الجراثيم عن طريق غسل يديه بصابون، أو أن يقتل 99% من البشر على كوكب الأرض عن طريق قنبلة نووية. إذ –في معيار الإلحاد– لا فرق بين الاثنين؛ بل إنه لا معنى للقتل أصلا؛ إذ أن القتل هو خروج الخلايا من حال الحياة إلى حال الموت! وفي الحالتين فإن كل ما حدث هو أن هناك بعض العناصر الكيميائية قد تناثرت من مكان لآخر، إذ إن المادة لا تفنى، فما معنى الأخلاق في عرف الإلحاد؟ إنه ببساطة، لا شيء!

شقاء الإلحاد

إن الملحد الحق، هو الذي أعلن إلحاده بينه وبين نفسه، ثم آثر الخروج من الحياة تطبيقًا لمنهجه الصحيح، فهذا هو الملحد بحق، لأنه قرر أن يعمل عقله ليفهم حقيقة ما يدعو إليه، إذ أن الإلحاد لا يترك للملحد مهربًا من وحل الفلسفة العدمية بكل ما فيها من شؤم وانعدام المعنى وسوداوية تقتل كل محاسن الحياة.

إن الملحد الذي أخلص لإلحاده لا بد أن يخلص للفلسفة العدمية، ومن تمام الإخلاص للعدمية فقدان المعنى كله، والسعي للراحة من الحياة، إذ إن الفلسفة العدمية ما هي إلا منهج منظم ومخطط دقيق لجر أرجل من يتمتع في أودية الحياة إلى مشرحة المنتحرين.

أما من يعلن إلحاده ثم تمر العقود عليه مرًّا، فما هو إلا مثرثر بما لا يعلم ولا معرفة له بالإلحاد؛ لأن طبيعة التكوين النفسي للإنسان يجعل تعايشه مع كونه ملحد مستحيلًا، ووجود ملايين الملاحدة الذين لم ينتحروا بعد ليس دليلًا على كون الإلحاد معتقَدًا يمكن التعايش به، بل هو دليل على أنهم وصلوا لمرحلة من حب الدنيا والحرص عليها حتى رفضوا أن يتفكروا في حقيقتها، وتكاسلوا عن التفكر في تبعات الإلحاد وما يترتب عليه من لوازم غاية في السواد والشؤم، فالأمر أشبه بمن يرتدي ملبس عليه كلام بغير لغته ولا يفهم منه شيئا, ولكنه يفتخر به لأن الملبس يعجبه!

إن الإلحاد فكرة تتناقض بنفسها مع نفسها، وهو أسهل مذهب فكري مخالف للمسلمين، بل إننا في هذا المقال عرضنا نقاطًا تخص طبيعة النفس البشرية فقط، ولم نتطرق إلى تناقض الملحد مع نفسه في إبداء آرائه حول الأديان والقضية الوجودية في نفس الوقت الذي يشكك فيه في مبادئ العقل! ولم نتطرق إلى محاولات الملاحدة في إنكار الإرادة الحرة وتحويل الإنسان إلى جماد محكوم بكيمياء الدماغ ثم يقنعوك هم بإلحادهم، رغم أنهم يقرون بأن الإنسان مسلوب الإرادة!

وما عرضناه ما هو إلا جزء من الإلحاد كاملة، بعيدًا عن حماسة المراهقين الذي يلحدون بدافع الهوس الجنسي أو الضعف العلمي أو الانغماس في الشهوات بغير رادع من دين ما..

ربما لو فهم الملحد ما هو الإلحاد لخجل أن يفصح عن عقيدته. أو ربما لألحد ولكن لقب نفسه بهوية أخرى. أو لرجع عمّا يعتقد ليعيد حساباته حقًّا، وهكذا نرى أننا نقف في عالم به إلحاد، ولكن بلا ملحدين!


مصادر للتوسع:

الإلحاد في مواجهة نفسه – سامي عامري

عيادة الملحدين – هيثم طلعت