أحداث خيالية في المستقبل القريب

المشهد الأول

جلس حسن في صالة منزله وهو يحل ربطة عنقه السوداء بعد عودته من دفن والده الحاج تامر. ضم يديه تحت ذقنه وهو ينظر للأرض غير مصدق أنه قد فقد أباه ولم يعد له وجود في حياته. أخذ نفَسًا عميقًا وعاد ليفرد راحتيه مخفيًا وجهه خلفهما وهو يزفر كما لو أنه يلفظ جاثومًا على صدره.

– هوّن عليك يا حبيبي.

رفع حسن رأسه ليجد زوجته نانسي تقف أمامه وتطالعه برأفة، فوقف على قدميه وعانقها قائلًا بصوت منكسر:

– لقد رحل ولم يتسنّ لي أن أودّعه.

تنحنحت نانسي مع ابتسامة متردّدة:

– إن أردت يمكنك أن تستخدم أليكسا.

عقد حسن حاجبيه ونظر مباشرة لعينيها:

– تعلمين أنني لا أحب المشاعر الكاذبة أليكسا فقط لإدارة شؤون المنزل والإنترنت، وليس لإدارة شؤون حياتي الشخصية.

لوّحت نانسي بيدها وقالت:

– لولا أليكسا لما استطعتُ تجاوز وفاة أمي، أتعلم.. ما زلت ألجأ إليها من وقت لآخر. حقيقة أشعر أنني فعلت الصواب عندما أقنعت أمي بإعطاء أمازون تصريحًا لتكوين شخصيتها الرقمية.

هز حسن رأسه قائلا:

– أنت حرة في حياتك ومشاعرك.

عقّبت نانسي سائلة:

– وماذا عن حياة ابننا تامر الصغير؟

ضغط حسن على أسنانه ويقول:

– لولا تامر الصغير لما وافق أبي أبدًا على تكوين شخصيته الرقمية. ألست أنت من لمّح له أن حفيده يفتقده دائمًا في رحلات الصيد ويريد أن يسمع قصصه كل يوم؟

أجابته نانسي وهي تهز كتفيها:

– حسنًا، يجب أن نعتبر أنفسنا محظوظين أنه قد فعل، أليس كذلك؟

أراد حسن أن يقول شيئا، لكن تامر الصغير دخل مسرعا للصالة قائلًا لأمه:

– ماما… ماما… لقد كنت مؤدّبًا خلال الدفن.. هل يمكن أن يحكي لي جدو تامر حكاية؟

ابتسمت نانسي لابنها وهي تنظر خلسة لأبيه قائلة:

– ليس الآن يا تيمو، ربما بعد العشاء.

علا صوت تامر الصغير:

– أرجوك ماما.. حكاية واحدة فقط أرجوك!

نظرت نانسي لزوجها حسن وكأنها تطلب موافقته، فأشاح بوجهه وأشار بيده أن دعيه يفعل، فهزت برأسها لتامر الصغير الذي صاح فرِحًا:

– هييه!

قفز تامر الصغير على الأريكة بجوار أليكسا -أحدث نسخة من أمازون-، وأمرها:

– أليكسا! تجسيد الحاج تامر!

صدر صوت من الجهاز:

– حسنًا، تجسيد الحاج تامر، هل أستخدم العمر الافتراضي ذي الستين عامًا؟

أجاب تامر الصغير:

– نعم.

على الفور خفت الإنارة في الصالة قليلًا، ثم انبثقت أطياف من زوايا محددة في الغرفة لتتقاطع على الأريكة المقابلة لتامر الصغير فتكونت صورة ثلاثية الأبعاد (هولوغرام) للحاج تامر وهو يرتدي ملابس الصيادين رابطًا شعره الأبيض الضعيف على طريقة لاعبه المفضل قديمًا جاريث بيل. ابتسمت الصورة الافتراضية للطفل فصاح مجدّدًا:

– جدو تامر!

صدر صوت مشابه لصوت الجد الميت:

– آه حفيدي تيمو، كيف حالك يا ولد؟

تامر الصغير:

– بخير بخير.. هل ستحكي لي حكاية؟

صدرت ضحكة مشابهة لضحكة المرحوم مع سعال خفيف خفق لها قلب حسن وتحركت الصورة وكأنها حية، متقمصة تفاصيل شخصية الحاج تامر، وأسلوبه في الكلام وحتى طبائعه وتعابير وجهه. رفع الجد يده موجها إصبعه للصغير:

– قبل أن أفعل، هل أكلت عشاءك كله؟

تامر الصغير:

– نعم نعم… احكِ لي حكاية سمكة التونة العنيدة مرة أخرى.

صورة الجد:

– أوه، تلك السمكة، كانت أفضل صيد لي بالرغم من كل شيء.

وأخذت أليكسا تسرد الحكاية بصوت وصورة الجد، مستخدمة الذكاء الاصطناعي في تحليل أسئلة تامر الصغير والإجابة عليها بما يتوافق مع شخصية الجد الراحل. أما حسن فقد أخذ يراقب ابنه وهو في قمة التفاعل والسعادة مع صورة الهولوغرام، فتارة يصفق بيده وتارة يفتح فمه منبهرًا ببطولة جده. أخذ حسن يهز رأسه ببطء وكأنه يرى خطبًا عظيمًا. اقتربت نانسي منه وهمست:

– ما خطبك؟

أجابها حسن:

– ألا ترين كيف أنهُ سعيد في حين أن جده قد فارق الحياة ودفن قبل قليل، أليس من المفترض في الارتباط العاطفي أن يكون متعلّقًا بأشخاص حقيقيين؟

صمتت نانسي قليلًا وقالت ببرود:

– حسنًا، لكن على الأقل هو سعيد الآن، هل ستكون سعيدًا إن رأيته حزينًا؟

رفع حسن أحد حاجبيه ومط شفتيه قبل أن يقول:

– أتعلمين، تامر الصغير لا يشبهك فقط بالشكل، بل أيضا بطريقة التفكير!

قطّبت نانسي حاجبيها وقالت:

– وأنت لا تشبه والدك فقط بالشكل، بل بطريقة التفكير أيضًا!

قام حسن من مقعده غاضبًا، فسألته نانسي:

– إلى أين؟

أجابها:

– لدي عمل في مكتبي، لا أريد أن يزعجني أحد.

نادته نانسي وهو يبتعد:

– ماذا عن العشاء؟

سمعت صوته وهو يصعد الدرج للدور الأعلى:

– لا رغبة لي في الأكل

بعد ساعات قليلة في المكتب – المشهد الثاني

كان حسن منشغلًا في عمله متناسيًا وفاة والده حين دخل عليه تامر الصغير محتضنًا دمية محشوة. تنبّه حسن لوقوف ابنه عند الباب وقال في نفسه (ليس الآن، هل هو كثير أن يطلب ألّا يزعجه أحد!). أراد أن يتجاهله محاولًا التركيز فقط على إنجاز ما طلبه مديره لكنه نظر إليه على أية حال وسأله:

– ماذا يا تامر، أليس من المفترض أن تكون في سريرك؟

تردّد تامر فقال:

– لا أستطيع النوم.. هل تحكي لي حكاية يا بابا؟

نزع حسن نظارة القراءة وفرك عينه قبل أن يقول:

– ألم تشبع من الحكايات؟ يا ولدي أنت في العاشرة من عمرك، عليك أن تفهم أن في الحياة مسؤوليات كثيرة وكبيرة.

قال تامر:

– إذًا هل تحدثني عن هذه المسؤوليات؟ لربما أستطيع النوم بعدها.

عاد حسن لفرك جبينه هذه المرة، فقد بدأ الصداع يصل لرأسه ثم قال:

– ليس الآن يا تامر، أنا مشغول جدًّا. اذهب لسريرك وحاول النوم مجددًا.

طأطأ تامر رأسه وخرج من غرفة المكتب بينما غمغم حسن مستهزئًا:

– لا أعلم حقا كيف سيتحمّل هذا الجيل أي مسؤولية، هه.. يظن أنه سيشعر بالنعاس عندما يستحضر المسؤوليات!. لو سمع جدك…

عادت صورة الحاج تامر لذهن حسن فسكت وسرح في مخيلته لتعود ذكرياته وهو صغير، وكيف كان والده قاسيًا معه. الحقيقة أنه لم يكن يقدر هذه القسوة إلا عندما أصبح شابًّا ناضجًا، وبالرغم من أنه كان يشعر بالفجوة بينه وبين والده، إلا أنه كان يكن له احترامًا عميقًا. فقد علمه ألا يحيد عن مبادئه كمركب الصيد، طالما كان في البحر فهو سيد نفسه يذهب أين يشاء، لكن بمجرد أن يحيد عن البحر للبر، تتعطل دفته ويصبح عرضة للقطر بعربة دون إرادته. علمه أيضا الثبات على أهدافه بصبر وعزم مثلما كان يصيد السمك الكبير. كثيرة هي الأشياء التي تعلمها من والده بالرغم من أنه لا يحب صيد السمك. لماذا لا يستطيع تامر الصغير أن يستفيد منه كما كان يستفيد من والده؟ لماذا تعلق بجده وحكاياته؟ هل تغير والده عندما كبر؟ هل سيتغير تامر الصغير مستقبلًا؟

كثرت الأسئلة في رأس حسن وتذكر عمله ثم بدأ يزيد الصداع. مد يده لدرج المكتب باحثًا عن بعض حبّ مسكّن للألم، فسمع صوت حركة خفيفة قادم من الدور السفلي. قام حسن من مقعده على الفور ونزل ببطءٍ فلمح تامر الصغير يدلف لغرفة الصالة. اقترب حسن بهدوء من الصالة فسمع تامر الصغير:

– أليكسا، تجسيد الحاج تامر.

– حسنًا تجسيد الحاج تامر، هل أستخدم العمر الافتراضي ذي الستين عامًا؟

– لا بل ثلاثون عامًا.

– حسنًا، تجسيد الحاج تامر في الثلاثين من عمره.

تكونت صورة أخرى طيفية ثلاثية الأبعاد للحاج تامر لكن هذه المرة وهو يشبه إلى حد كبير ابنه حسن في عمره الحالي.

– آه تيمو البطل، كيف حالك يا ولد؟

– لماذا يا بابا لا تحبني؟

– كيف تقول ذلك، أنا أحبك.

– لا أنت لا تحبني كما تحبني ماما.

– كيف تحبك ماما إذًا؟

– ماما تسمح لي أن أتكلّم مع أليكسا.. وتحضّر لي العشاء.. وتسألني عن مدرستي.

– إذًا كيف هي مدرستك؟

– لا تعجبني كثيرًا.. لكن..

– هل هناك شخص ما يعجبك في المدرسة؟

– إممم.. لا.. نعم.. لا يهم

– لكنه يهمني، أنا أبوك وأحبّك مثل ماما.. ألا نتحدث كل ليلة؟ هيا.. هل هي صديقة أم صديق؟

– حسنًا.. ربما هناك صديق يعجبني لكن لا أعلم.. سمعت بابا يلعن هذا النوع من العلاقات الحميميّة.

– أوه لا.. اسمعني جيدًا يا تامر.. الحب لا يفرّق بين…

اختفت الصورة الطيفية فجأة واشتدت الإضاءة لتظهر والد تامر الحقيقي خلف الأريكة واقفًا شاحب الوجه متسع العينين وممسكًا بسلك أليكسا بعد أن نزعه من القابس الكهربائي.