أبناؤنا في المهجر.. إلى أين ينتمون؟
إن كان لأحد دور في إنشاء الإنسان سويًّا منذ صغره، فإن هذا الأمر منوط بالدرجة الأولى بالأب والأم والأسرة، فللأسرة الدّور الأكبر في إنشاء الطفل السويّ، بعيداً عن القسوة والإهانة والتّعنيف، وبالاهتمام بصحّته الجسديّة والنفسيّة، وبتعليمه ووقايته من كل مصابٍ، والوقوف إلى جانبه عندما تعترضه مشكلة ما.
إنّ كثيراً من الأسر المهاجرة أصابها القلق من أن يتأثّر أبناؤهم بالثّقافة الجديدة، فتعصّبوا لوطنيّتهم وتقاليدهم، مع أنّ كثيراً منها ليس من الإسلام في شيء، فأحاطوا أنفسهم خوفاً عليها بأسوارٍ تعزلهم عن المجتمع الجديد، لدرجة ألّا يتعلّموا لغة المهجر الذي لجأوا إليه رغم أنها باتت لغة أطفالهم أيضاً، ونسوا أنّ أبناءهم يقضون أكثر أوقاتهم خارج هذه الأسوار، فهم لم يحاولوا فهم ثقافة تلك البلاد ليفسّروا لابنهم طبيعة الاختلافات التي بينهم، ولم يتعلّموا مالهم من حقوق ليدافعوا عنها ويستردّوها إن تعرّض أحدٌ منهم لظلم، فاستحالت هذه الأسوار مع الأيام إلى حاجز بينهم وبين أطفالهم، فالطّفل قد صار أجنبيّ اللّغة والملبس والثّقافة، بينما أهله مازالوا على لغتهم وثقافتهم، وكأنّهم حفروا خندقاً حول السّور ليبقى ولدهم حبيساً فيه متخبّطّاً لا يعرف كيف يخرج من أزمته، ولا إلى أيّ طرفٍ يجب أن يذهب.
ما الوطن؟
فكرة الوطن نابعة من حاجة الإنسان للمكان وارتباطه به، وهو أمرٌ فطريّ، كما يمكن للأوطان أن تتبدّل وتتغيّر، وأن يكون للإنسان وطنان، فيهاجر إلى وطن آخر ويَحيى فيه عمره ومن الممكن أن يموت فيه، وتدور معاني الكلمة في معاجم اللّغة حول المكان الّذي يقيم فيه الإنسان، وُلد به أم لم يولد.
أعطى الله في القرآن للإنسان الحقّ أن يدافع عن أرضه ودياره ليستردّها، ووصف الإخراج من الديار كخروج الروح من البدن، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [النساء:66].
إن حبَّ الإنسان للوطن والانتماء، لا يتعارض مع الانتماء للإسلام، الذي هو انتماء أكبر وأعمق من الانتماء إلى الأرض أو المكان، فالانتماء إلى الوطن قَدريٌّ وجَبريّ لا اختيار للإنسان فيه، ولكن الانتماء الآخر الذي هو لله ولرسوله وللأمة التي تشاركه هذه العقيدة نابع عن اختيار الإنسان وحريته؛ إذ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ولعله لا يخفى مدى غلوّ النزعة الوطنية الحديثة والمعاصرة، التي جعلت المسلم يفكِّر في وطنه قبل عقيدته، وفي شعبه قبل أمَّته، ويعتبر المسلم من غير بلده أجنبياً.
إن الدين مقدَّم على الوطن في حال التعارض، إذ للمكان أو الوطن بديل، بينما لا بديل للدين، والإنسان مأمور بمغادرة وطنه إذا مُنِع من تأدية شعائر الإسلام فيه، حيث بيَّن القرآن الكريم في مفاصلة واضحة وحاسمة: أنّ دين المسلم أعزُّ عليه، وأحبُّ إليه من كلِّ شيء سواه، مما يعتزُّ به الناس ويحرصون عليه، وذلك في قوله تعالى في سورة التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
الانتماء للدين هويّة الأنبياء والرُّسل
كلّما بدأ الإنسان بالتَّفكّر في خلقه وأصله، توجَّه بنظره إلى السّماء والأُفق باحثاً عن خالقه وربّه، ليَأتيه جواب الله في قرآنه: }إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14[، وبأنّه خالقنا وإليه مَرجِعنا فقد قال: }خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ*{ [التغابن: 3].
ولنقف عند وصيّة لقمان عليه السّلام الأولى لابنه، حيث أمره أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا. }وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ{ ]لقمان:13. [
كل هذا يوجب علينا القول: إن أوّل ما يُلقّن الطّفل الصّغير هو اسم الله، ليُسلِمَ له بالفطرة الّتي أودَعها سبحانه فيه، فيَعرف من خَلقه وإلى أين ومن ينتمي وأين سينتهي، أمّا الأوطان المكانية والهويّات القوميّة فما هي إلّا جزءٌ من صنع الإنسان، حيث يُصنّف نفسه في جماعات لا تحدِّدُ انتماءه وأصله النهائي إلّا بمقدار ما يراد له أو يثبتُ وجوده المادي، فهي بمثابة وثائق، يُجبَر عليها لتُثبت دائماً أصله.
يصنعُ الإيمان بالله دِرع حماية للإنسان والطفل، تَقيه من كلّ ضياع وتخبّط، فإن رُفض الطّفل ممّن حوله لسبب ليس له ذنبٌ فيه، فإن قلبه وعقله يخبرانه أنّ الله سيقبله كما هو بلونه وعرقه وشكله وحتّى مع ذنوبه ومعاصيه مالم يُشرك به، فهناك قوّة تولج في القلب والجسد تُعزّزها جذور الإيمان القويّة وحبّ الله ورسوله، تشبه تلك القوّة التي جعلت بلال الحبشيّ رضي الله عنه يَصرخ من تحت الصّخرة الطّاحنةِ أحشائه، ولاتُزال إلّا بكُفره بالله: أَحدٌ، أَحد.
كيف تعزز انتماء الطفل للإسلام؟
لتَنمو جذور هذا الإيمان وتمتد، فإنها بحاجة إلى سقاية ورعاية من الأهل وتشذيبٍ مستمرٍّ وعناية فائقة، لتتحوّل إلى شجرة باسقةٍ لا تَهتزّ بإعصار، فيتعلّم الطفل والشاب والفتاة استحضار الخوف من الله وتَعظيم شعائره التي أهمّها الصّلاة، والحرص على علوم الشّرع والتفقّه بالدين ومعرفة الحلال والحرام، فيكون الدّين مَنارتهم في هذه الحياة.
ومما يُساعد أيضاً في تعزيز الهويّة الإسلاميّة، تَعلّم اللّغة العربيّة الفصيحة ليفهموا كلام الله والتزام الجاليات الإسلاميّة وبيوتِ الله، ومن المهمّ أيضاً تعلّم أساليب المجادلة والإقناع بالحجّة ليَردّ عنه كل مستهزئٍ ويُبعد الشكوك عن قلبه وعقله، فهو يعيش في مجتمع محاطٍ بالفِتن والشّبهات، كما أنّ من الجميل الاحتفال بأعياد المسلمين وإشعار الطفل بالفرح في تلك المناسبات وترسيخها بالذكريات الطيبة وإن كان من خلال إقامة احتفالات بسيطة، والحِرص على إيجاد الصُّحبة الصَّالحة، وإبعاد الأبناء قدر الإمكان عن الفراغ واللّهو فيما يُضيّع الأوقات، ودفعهم في الانخراط ببعض النشاطات المناسبة للأطفال والشبان والفتيات التي تخلو من المحرّمات، وذلك بهدف فَهم المجتمع الذي يعيشون فيه أكثر.
دلني على الطريق
كلّ ما ذُكر آنفًا، ليس بسهل التّطبيق بكل تأكيدٍ، فمحضُ الالتزام بالتّعاليم الإسلاميّة في بلدٍ لا يؤمن به أو يحاربه هو جهاد، كما أن بعض المدن تخلو من المدارس الإسلاميّة مع ضَعف وجود وأثر الجالية الإسلاميّة فيها، إضافة إلى أن مشاقّ الحياة ومصاعبها على الأهل التي تتضاعف في المَهجر مع عدم وجود معينٍ وضيق الوقت تصعّب المهمّة أكثر، وهذا يزيد من ثقل المهمّة على عاتق الوالدين ويجعلها على عواتقهم بشكل شبه كامل.
هذه المهمة على صعوبتها، ليست بالمهمّة المستحيلة إن أَخلص العبد النيّة ودعا الله وتوكّل عليه، فلا بد أنه تعالى سيكون مُعين المرء وهاديه وناصره، إلى جانب أن محاولة التّخطيط وتنظيم الوقت وتعليم الأطفال حتى لو بالقليل كلّ يوم، واستغلال العُطل والإجازات ستؤتي أكلها بنتائج مُرضية بإذن الله.
من الجيّد عند المقدرة، محاولةُ تقليل عدد السّاعات التي يقضيها الطّفل في دور الرّعاية خارج منزل الأهل عند عدم الحاجة لذلك، وهنا نؤكد على أهميّة تعليم الطفل العلوم الشرعية التي تمكّنه من امتلاك مفاتيح فهم الدين، فبحمد الله بات من السهل في عصر الثّورة الرقميّة طلب العلوم الشرعيّة وتعلّم كلّ ما هو مفيد من اللّغة العربية وقراءة القرآن عن بعد على يدِ علماءِ متخصصين.
إن حَرص الإنسان على ما يَقيه من نار جهنَّم وغضب الله، وما يُفيده في دينه ودنياه واهتمّ بما سيُسأل عنه يوم القيامة، فَاز فوزاً عظيماً، وكلّ ما يُترك مرضاةً لله يُعوّضُ الله بخير منه، ولايكلّف الله نفساً إلّا وسعها.
ختامًا، لا بد من القول: يجب أن نجابه الخوف في المهجر، لئلا يكون سبباً للانعزال، إلى جانب أن رفض الأوروبيين أو الغربيين لنا، ليس مسوّغًا لتمييع ديننا والابتعاد عنه ليَرضوا عنّا فإنهم (لن يَرضوا)، ونحن الأقوياء ما دمنا ثابتين على الحق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير). [أخرجه مسلم في صحيحه]